الصمود الأسطوري الذي تسطره المقاومة في قطاع غزة أذهل قيادة الاحتلال العسكرية والسياسية، وأذهل العالم أجمع الذي أيد جيش الاحتلال في تحقيق هدفه، مهما كان الثمن، خلال الشهرين الماضيين. وقد ترسخت قناعة في هذا الوقت للجميع، سواء كان الاحتلال أو دول العالم، بأن غزة غير قابلة للكسر أو الاستسلام.
ويرجع الصمود الذي أظهرته المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة إلى عدة عوامل مهمة في الجانب السياسي المقدس للقضية الفلسطينية والجانب العقدي الذي تحمله قيادة المقاومة والجنود في الميدان، وهو أمر لم تعهده "إسرائيل" أو دول المنطقة، إضافة إلى الاستعدادات التي تجاوزت القدرة العسكرية الإسرائيلية التي تعمل فوق الأرض في قطاع غزة.
هذه الحرب أظهرت للجميع أننا حالياً أمام جيل من المقاتلين لا مثيل له على أرض غزة؛ جيل لا يعرف الاستسلام مهما كانت الهجمة العسكرية عليه. وقد سطر المقاتلون الفلسطينيون في كثير من مناطق القطاع ملاحم بطولية أقل ما توصف به بأنها خيالية لا تصدق من الناحية العسكرية.
طريقة القتال التي اعتمدتها المقاومة المرنة والتكتكيات العسكرية الفريدة التي تعتمد على العقد القتالية ونصب الكمائن القاتلة وجني الأثمان الكبيرة من جيش الاحتلال في مختلف مناطق القطاع كانت نقطة فارقة في المعركة، وهو ما أدخل جيش الاحتلال في حالة استنزاف لا مثيل لها، أدت إلى تدمير قرابة ثلث قوته البرية ووقوع آلاف القتلى وعشرات الآلاف من الجرحى.
المقاتل الفلسطيني يعلم جيداً أنّه بلا سند، وأن كل العالم تكالب عليه، باستثناء قلة من الأصدقاء، وبات إيمانه أعمق بأنه قادر بصموده وتكبيد عدوه الخسائر الكبيرة على تحقيق هدفه، وهو يدرك أن انسكاره واستسلامه معناه نهاية القضية الفلسطينية. لهذا، بات أكثر صلابة وقوة.
من ناحية أخرى، هناك إيمان عقائدي لدى مقاتلي المقاومة في غزة بأن هناك وعداً إلهياً بإنهاء دولة الاحتلال في هذا الزمان وخلال هذه السنوات، مهما كانت الظروف واشتدت الضربات. لهذا، يرى المقاتل أن صموده سيقابل بانكسار من الاحتلال، مهما طال أمد الحرب.
ما زالت المقاومة صامدة في قطاع غزة ومنظومة السيطرة والتحكم تعمل بشكل جيد، وكل مقاتل يعرف عمله في الميدان، سواء في العقد القتالية أو في مرابض الصواريخ أو في وحدة الظل وغيرها من الوحدات، وهو أمر مثير للإعجاب لأصدقاء المقاومة ومخيب لآمال جيش الاحتلال الذي بات يكذب ويفبرك ويزور ليواري فشله الذريع أمام المقاومة.
إن الصمود والتصدي الأسطوري الذي شهده مخيم جباليا في الأسبوعين الأخيرين زاد قناعة الاحتلال بأن لا مجال أمامه في العمل العسكري داخل قطاع غزة، فبرغم القصف المكثف، كانت أصوات التكبيرات تُسمع في كل أنحاء المخيم. ومع كلّ ضربة ضد قواته، كانت هذه الأصوات تُسمع، وهو ما دفع الجيش إلى الانسحاب من أجزاء من المخيم بسرعة وسط خوف لدى القوات التي وصلت إلى ذلك المكان.
وفي حي الشجاعية الذي تفاخر لواء جولاني بأنه عاد إليه، وبرغم أن الجيش سوّى بالأرض أجزاء واسعة منه، فإنّه تلقى ضربات فيه أشد وأقسى من تلك التي تعرض لها في حرب عام 2014، وباتت خسائره كبيرة. وقد قُتل عدد من القيادات الكبرى في اللواء في كمائن واشتباكات مباشرة باغتت بها المقاومة قواته بعد ساعات من وصوله إليها.
أما في خان يونس، فقد دفع جيش الاحتلال بأعداد كبيرة من جنوده وآلياته، لعله يحقق أي هدف في تلك المنطقة أو يصل إلى قيادة المقاومة أو إلى أي صورة تكسر المقاومة، لكنه تكبد خسائر فادحة، وباتت خسائره تتضاعف يوماً بعد يوماً، فما كانت المقاومة تدمره في 72 ساعة بات يسحق في 24 ساعة، وبات عداد القتلى والجرحى يتحرك بسرعة غير مسبوقة.
أمام هذا المشهد، وبعد شهرين أو سنة، لا تتوقعوا أن ترفع المقاومة راية الاستسلام أو تقبل هرطقات نتنياهو وحكومته، فلديها الكثير من عوامل الصمود، ولديها العديد من أوراق القوة، ومنها ورقة الجنود الأسرى التي ستوقف الحرب حتماً، مهما طال أمد العملية العسكرية.