ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "شَرُّ النّاسِ مَنْ لا يَشْكُرُ النِّعْمَةَ وَلا يَرْعى الْحُرْمَةَ".
وفي منشور سابق كتبتُ عن الشكر، شكر المُنْعِم، وشُكر النِّعمة، وأنه واجب عقلي، وأن له تأثيراً عظيماً في نفس المَشكور، ونفس الشاكر، وأنه سبب لزيادة إنعام الله على الشاكر، وذكرتُ أن عدم الشكر يكشف عن لؤم مستحكم في نفس المَرء، وهذا لا يرتضيه إلا الجَحُود اللّئيم، لأن الشكر أَقَلُ ما يُرَدُّ به جميلُ الطرف الآخر، وهو من مصاديق: "هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ﴿الرحمن/ 60﴾.
ودعوت إلى ضرورة تعميم ثقافة الشكر في حياتنا الأسرية والعائلية والاجتماعية، وفي علاقتنا بالله تعالى باعتباره المُنِعم علينا بِنِعَمٍ نعجز عن استقصائها وإحصائها، ونِعَمُه متوالية مترادفة.
وفي جوهرته الكريمة يتحدث الإمام أمير المؤمنين (ع) عن صِنْفٍ يصفه بأنه شَرُّ الناس، ويذكر له صفتين:
الصِّفة الأولى:
عدم شكره النِّعْمَة، وقد سبق الكلام حول الشكر، ولكني أضيف هنا أن الله تعالى أكد في كتابه الكريم أن أكثر الناس يجحدون نِعَم الله ولا يشكرونها، قال سبحانه: "إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ﴿البقرة/243﴾.
إنهم لا يشكرون إمّا لغفلتهم عن النِّعم التي يرفلون بها في كل لحظة وحين، أو لأنهم ينسبوها لأنفسهم يحسبون أنهم حصلوا عليها بكَدِّهم وجُهْدهم وذكائهم كما ادَّعى قارون الثَّرِيٌ إذْ: "قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِنْدِي" ولكن الله ردَّ على منطقه الباطل البائس فقال: "أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ﴿القصص/78﴾.
فلو كانت النعم بأيديهم لأمسكوا بها من الضياع والتلف، ولجَنَّبوا أنفسهم الخسارة، ولو كانت الأرزاق بيد الإنسان وحده لما افتقر أحد، فالخسارة والقِلَّة بعد الكثرة، دليل على أن الله هو الرَّزاق، يزيد هذا ويُقَلِّل لذاك.
وإذا كان أكثر الناس لا يشكرون الله وهو الذي أنعم عليهم بإيجادهم، وبأبدانهم، وبما ركَّب فيها من أعضاء، ويُنعِمُ عليهم بجميع ما يحتاجون إليه من طعام يقيم أوَدَهم، وماء يسُدُّ رَمَقهم، وأوكسيجين يتنَفَّسونه، ومواد أولية يستخدمونها في مختلف شؤونهم وطيلة حياتهم، فهم بترك الشكر للناس أجدر، ولو أن الأمر اقتصر على عدم الشكر لهان وإن كان لا يهون، ولكنهم يجحدون وينكرون فضل غيرهم عليهم، وقد يُسيئون له، ويعادونه ويتعدون عليه.
الصفة الثانية:
يهتكون الحُرمة ولا يرعَونها. والحُرمة مُفرد حُرُمات، وهي الأمور المُحرَّمة عقلاً وشَرعاً، وما لا يحِلُّ الاعتداءُ عليه، وتأتي الحُرمة بمعنى المَهابَة، والإجلال والعَظَمَة، والحقّ، وما يجب القِيامُ به، والذِّمَّة، وتشمل كل ما يجب احترامه وحِفظه، من الحقوق، والأشخاص، والأَمكِنة، والأزمنة.
فالإنسان له حرمه، يجب حفظها، فلا يجوز الاعتداء عليه مطلقا، فدمه حرام، وماله حرام، وعِرضه حرام، وسُمعته حرام، وكرامته حرام، لا يجوز قتله، ولا الإضرار به، ولا إهانته، ولا إذلاله، ولا تشويه سمعته، ولا إفشاء سِرِّه، ولا فضح مستوره، ولا غصب ماله، ولا هتك عرضه، ولا السخرية والاستهزاء بهز
وهكذا، للمجتمع حُرمة، وللدين حُرمة، وللكعبة حرمة، ولكل بيت من بيوت الله حرمة، ولكتابه القرآن حرمة، ولشريعته حرمة، ولأوليائه من الأنبياء والرسل والأئمة حرمة، وهكذا الحال بالنسبة إلى الأزمنة مثل حُرمة شهر رمضان، وسوى ذلك من الحُرُمات وهي كثيرة جداً، وقد أوجب الله تعظيمها واحترامها وحَرَّم كل فعل أو قولٍ أو حالٍ ينال من حُرمتها، قال تعالى: "ذَٰلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ..."﴿الحج/30﴾.
الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية
السيد بلال وهبي