أغلب الظن أن الأمريكي القاتل شعر بالاستفزاز لأن الشبان الثلاثة كانوا يلبسون الكوفيات ويتحدثون بمزيج من العربية والإنكليزية. إصابة عورتاني كانت الأكبر لأنها جاءت في العمود الفقري وقد تقود إلى شلل دائم.
الثلاثة في العشرين. جاؤوا من مدرسة واحدة، هي مدرسة الفريندز في رام الله، وعرفوا بتفوقهم الدراسي لكنهم سقطوا ضحايا في مكان كانوا يعتقدونه آمناً ليقولوا لنا إنه في حمى إحراق غزة وتدميرها لم يعد هناك أي مكان آمن للفلسطيني.
في رسالته التي قُرئت في جامعة براون التي كتبها على سرير المرض، كتب عورتاني: «أتفهم أن الألم عظيم وحقيقي ومباشر لأن الكثيرين منكم يعرفونني، لكن أي هجوم مثل هذا مرعب، سواء كان هنا أو في فلسطين. وعندما ترسلون أمنايتكم أو تضيئون الشموع يجب ألا يتركز تفكيركم عليَّ كفرد، ولكن على العدد الأكبر من الناس الفخورين الذين تعرضوا للاضطهاد».
أما زميله كنان عبد الحميد، فصرح لنيويورك تايمز: «في الضفة الغربية لا نشعر بالأمن بسبب الاحتلال. وبصفتي فلسطينياً أمريكياً، لست آمناً في أمريكا لأن أشخاصاً كهذا قد يخرجون، وهو أمر من الصعب التعامل معه».
ثلاثة شبان متفوقون يبحثون عن أفق للحياة عبر الدراسة وجدوا أنفسهم غارقين في دمهم، أينما كنت أيها الفلسطيني فإن دمك مباح في زمن العنصرية التي جعلت من كراهيتك جزءاً من الطقس اليومي في الدوائر العنصرية الغربية.
حاولوا قتلهم بسبب الكوفية ولغتهم العربية. فالعربي لا يستطيع التخلي عن لغته، كما أن الفلسطيني لا يستطيع التخلي عن كوفيته التي صارت له بمثابة لغة ثانية يخاطب بها العالم.
حكاية الكوفية كما يعرفها الناس في فلسطين بدأت في ثورة 1936 عندما كانت قوات الاستعمار البريطاني تلقي القبض على كل من يلبس الكوفية باعتباره قادماً من الريف حيث تمركزت الثورة.
ردة فعل الفلسطينيين كانت بالغة البساطة، حيث قام كل الرجال في المدن بلبس الكوفيات، فتحولت الكوفية إلى علامة نضالية، خصوصاً أن تصميمها يتضمن أوراق الزيتون وشبكة الصيادين.
هذا التحول أسس لعلامة ثقافية سوف يحاول الإسرائيليون الاستيلاء عليها خلال حرب النكبة 1948 عبر قيام رجال ونساء البالماخ بلبس الكوفية كعلامة على انتمائهم للمكان.
طبعاً، هذه الحيلة لم تدم طويلاً لأن الكوفية رفضتهم، ولأنهم وجدوا أنها لعبة لن تنطلي على أحد.
عام 1965، عنما بدأت طلائع الفدائيين الذين كانوا يعملون سراً تظهر في الإعلام العربي، كانت صورهم كناية عن شبان يغطون رؤوسهم ووجوههم بالكوفية السوداء والبيضاء. هكذا أعاد الفدائيون الكوفية إلى مكانها الطبيعي بصفتها رمزاً للشعب الفلسطيني وأداة لمقاومة ثقافة الاحتلال والقمع.
نعود إليكم أيها الفرسان الثلاثة الذين كبر القلب بكم ولم يَرَكُم إلا كمناضلين في غزة، لأنكم نقلتم غزة من دون أن تدرون إلى قلب أمريكا. القاتل واحد وأنتم بصبركم وانتمائكم وكوفياتكم قلتم للعالم إن فلسطين تكون حيث يكون الفلسطيني، وأن أنقاض غزة تعلن تحول المبادئ والقيم إلى أنقاض.
في بداية الحرب على غزة، دخل العالم في صمت مريب، ولم ينكسر هذا الصمت إلا بعد أن بدأت تتكشف طبيعة الجرائم التي ارتكبها ويرتكبها الجيش الاسرائيلي. فبدأ التحول في الرأي العام وخصوصاً في الأوساط الشبابية في أوروبا والولايات المتحدة. من هنا تبرز أهمية التصدي للاعتداء الذي تعرض له الشبان الثلاثة، لأنه يسعى إلى إرهاب الأكاديميين والطلاب كي يمنعهم من مساندة قضية الحق في فلسطين.
يريدون محو تراث إدوارد سعيد في الأكاديميا الأمريكية والغربية، وهو التراث الذي كسر كل التابوهات المتعلقة بعلاقة الشرق بالغرب وبالقضية الفلسطينية.
إن تحويل الجامعات إلى مكان تنتفي فيه حرية الرأي يعني موت الفكر وموت دور الجامعات كمكان للنمو العلمي والثقافي عبر تحويلها إلى أبواق للسلطة الرأسمالية.
واللافت أن هذا الشكل من الانحطاط يحصل عندما ترتفع وتيرة العنصرية وينتشر الخوف من الأقليات أو المهاجرين أو المختلفين.
الإسلاموفوبيا اليوم هي وريث اللاسامية، وهي بذلك تشكل خطراً ليس على العرب والمسلمين الذين يعيشون في الغرب أو في بلادهم فقط، ولكنها تشكل خطراً على العالم. من هنا فإن الدفاع عن الجامعة في الغرب هو المدخل للدفاع عن الحد الأدنى من الديمقراطية ومن المبادئ الأخلاقية.
لقد أضاء العدوان المستمر على غزة كل الزوايا العنصرية المختبئة في الجسد الغربي، وعرّى الصهيونية من كل ادعاءاتها الإنسانية بصفتها قارب نجاة لليهود، إلى درجة دفعت الكاتب الإسرائيلي آري شافيت، إلى إعادة النظر في كل قناعاته الصهيونية السابقة وإبداء خوفه من واقع أن إسرائيل أصبحت مكاناً غير صالح للسكن.
كتب المجاهدون في غزة بدمهم وصبرهم صفحة جديدة في تاريخ النضال في العالم.
إسرائيل في المأزق، وغزة التي تمنى إسحق رابين أن يستيقظ ذات يوم من النوم فيرى أن البحر قد ابتلعها، صارت هي البحر. إنها بحر يعج بالبطولة والفداء.