1- قال الله تعالى: ﴿قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ﴾[1].
يقول السيد الطباطبائي في تفسير هذه الآية: والسنّة هي الطريقة والسيرة. وأمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يبلّغهم ذلك وفي معناه تطميع وتخويف وحقيقته دعوة إلى ترك القتال والفتنة ليغفر الله بذلك...
فإن لم ينتهوا عمّا نهوا عنه فقد مضت سنّة الله في الأولين منهم بالإهلاك والإبادة وخسران السعي"[2].
2- قال الله تعالى: ﴿وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً * سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً﴾[3].
وفي هذه الآية يبيّن الله عزّ وجلّ أيضًا طريقته ومنهجه في التعامل مع الذي يحاولون الصدّ عن سبيله بإخراج رسله من ساحة دعوتهم وتبليغهم.
وتقضي هذه الطريقة بأنّ المخرِجين سوف يستأصلهم الله من الأرض التي أخرجوا منها رسوله ويفكّك وحدتهم الاجتماعيّة التي كانت تربط بينهم وتدفعهم إلى ما أقدموا عليه من عدوان.
3- قال الله تعالى: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً﴾[4].
وتشبه هاتان الآيتان سابقتهما من حيث المضمون وذلك أنّ الله في هاتين الآيتين يهدّد المستكبرين الذين يقسمون على الاهتداء ولكنّهم بعد ذلك يستكبرون ويمكرون بالمنذرين الذين يأتون إليهم من قبل الله تعالى، يهدّدهم بما تقتضيه الطريقة والسنّة الإلهيّة في التعامل مع الأمم التي سبقتهم، ويلفت نظرهم في الآيتين اللاحقتين لهاتين الآيتين ويدعوهم إلى السير في الأرض والاعتبار بما جرى على الأوّلين وبالقوانين التي طبّقها الله عزّ وجلّ على من سبقهم من الأمم.
مداليل الآيات الكريمة في السنن
تفيدنا الآيات المتقدّمة أمورًا عدّة نستعرضها فيما يأتي لنطبّقها بعد ذلك على النصر الذي وعد الله به المؤمنين ونعرف هل هو سنّة من السنن التي يجريها الله تعالى على المؤمنين به أم هو حالة استثنائيّة يخصّ بها بعض الناس أو الجماعات في بعض الحالات دون غيرها.
1- العلاقة بين الفعل ورد الفعل:
السنّة تشبه القانون الذي يحكم العلاقة بين الفعل وردّ الفعل.
ففي الآية الأولى يحدّثنا الله عن ملازمة المخاطبين بالآية سيرة الأمم الماضية (الفعل) وعن انطباق سنّة الله على الأمم الماضية عليهم (ردّ الفعل).
وفي الآية الثانية يخبرنا عزّ وجلّ عن أنّ إخراج الرسول من ميدان دعوته سوف يؤدّي (الفعل) إلى تفكّك المتمرّدين وفقدانهم وحدتهم الاجتماعيّة (ردّ الفعل).
والأمر نفسه يُقال فيما يرتبط بالآية الثالثة.
2- المعرفة المسبقة:
يذكر العلماء أنّ ميزة القوانين التي يقدر العلم على اكتشافها أنّها تسمح للإنسان بالتنبّؤ بالأحداث الآتية في الطبيعة. ويؤدّي فهم الإنسان لقانون الجاذبية إلى قدرة المهندسين مثلًا على تنظيم الأبنية وفق قوانين محدّدة تسمح بتماسك البناء وتحول دون انهياره.
وكذلك فهم القانون الذي يؤدّي إلى الكسوف أو الخسوف يؤدّي إلى إمكان التنبّؤ بحدوث هاتين الظاهرتين قبل حصولهما وعلى هذين الأمرين يُقاس ما سواهما.
وفيما نحن فيه معرفة سنّة الله في الأمم الماضية تهدي الإنسان إلى توقّع النتائج والآثار التي تترتّب على أفعاله. ولا تغفل الآيات المتقدّمة هذه الخصوصيّة في السنّة بل تلفت إليها بطريقة واضحة عندما تدعو إلى الاعتبار الذي هو النظر في مصائر السابقين والآثار التي ترتّبت على أفعالهم لمعرفة الآثار والنتائج التي سوف تترتّب في حال تكرّر الفعل نفسه أو ما يشبهه من الأمّة المدعوّة إلى الاعتبار بمن سبقها من الأمم.
3- الدوام والاستمرار:
الدوام والاستمرار أو الاطراد هو من الخصائص التي تجعل المبدأ قانونًا وسنّة سواء كان ذلك في مجال العلم الطبيعيّ أو في مجال الإنسان والمجتمع.
فلا يكون القانون قانونًا إلا إذا انطبق على الجميع بطريقة واحدة. وحتّى الاستثناءات التي يظهر لأوّل وهلة أنّها تخرق القاعدة يجب أن تكون خاضعة لاستثناء قانونيّ ينسجم مع القانون الأصليّ. ومن هنا لا تكون المعجزات خرقًا للقوانين التي تحكم علاقة العلّة بالمعلول[5].
ومن هنا لا يكون رفع التكليف مثلاً عن بعض الناس خرقًا للقانون التشريعيّ، بل هو قانون يؤدّي إلى الاستثناء بشكلٍ قانونيّ. والآيات المتقدّمة تشير إلى دوام هذا المعنى بوضوح يغنينا عن الشرح والتفصيل.
4- حفظ الاختيار:
الخصوصيّة الرابعة من خصوصيّات القوانين الاجتماعيّة أنّها تحفظ للإنسان اختياره ولا تلغي إرادته. بل حتّى في القوانين الطبيعيّة عندما يكتشف الإنسان سرّ القانون ويفهمه حقّ فهمه فإنّه وإن لم يكن قادرًا على تبديله وتغييره: ﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾[6]، لكنّه قادرٌ على التكيّف معه والاستفادة منه.
فالإنسان لا يقدر على إبطال قانون الجاذبيّة المذكور أعلاه ولكنّه قادرٌ على تكييف حياته معه والاستفادة منه وتوجيهه في خدمة أغراضه ولو في حدود مرسومة لا يمكن تجاوزها.
فبدل أن يجري علينا قانون الجاذبية ويسقطنا من أعلى إلى أسفل يمكننا الاستفادة منه في الاستقرار على وجه الأرض. والقوانين الاجتماعيّة أيضًا يمكن التعامل معها بهذه الطريقة فيمكن للإنسان أن يقدم على تحقيق الفعل ليتحقّق ردّ الفعل، أو العكس يمتنع عن الفعل ويستفيد من تجربة الأمم الماضية فلا يجري عليه ما جرى عليهم.
جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
-------------------
[1] سورة الأنفال، الآية 38.
[2] الميزان في تفسير القرآن، ج 9، ص 75.
[3] سورة الإسراء، الآيتان 76 و 77.
[4] سورة فاطر، الآيتان 42 و 43.
[5] إشارة إلى نقاش فلسفيّ يدور حول المعجزات التي يأتي بها الأنبياء وأنّها لا تعدّ خرقًا لقانون العليّة، بل هي مصداق من مصاديق قانون العليّة ولكن النبيّ الذي يأتي بالمعجزة يطّلع على علّة غير العلّة الطبيعيّة التي اعتاد الناس عليها. وتفصيل هذا البحث له محلٌّ آخر. ومن أراد المزيد يمكنه الرجوع إلى كتب علم الكلام والفلسفة وكتب التفسير، ومن ذلك: الميزان في تفسير القرآن، ج 1، ص 73.
[6] سورة فاطر، الآية 43.