ورُوِيَ عن الإمام علِي ـ عليه السلام ـ أنه قال: "زِيادَةُ الدُّنْيا النُّقْصانُ فِي الآخِرَةِ".
صدق الإمام أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ إذ قال: "إِنَّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ كَرَجُلٍ لَهُ امْرَأَتَانِ، إِذَا أَرْضَى إِحْدَاهُمَا أَسْخَطَ الْأُخْرَى" إنهما ككفتي الميزان، إن زيد في احداهما ظهر النقص في الثانية، وعلى المرء أن يحدد أولويته في هذا الشأن، وتحديد الأولوية ينشأ مِمّا يعتقد به بخصوص الدنيا والآخرة، إذْ "كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ".
فإن كان يؤمن بمقولة: "إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ" ﴿المؤمنون/37﴾ فمن الطبيعي أن يختار الدنيا على الآخرة، وتكون لها الأولوية المطلقة، فيُقبل على الدنيا بكُلِّه، ويعطيها كل وجوده، ويصبُّ اهتمامه لها، حتى تستحوذ عليه وتُصَيّره عبداً لها.
وإنه لَيَقضي حياته بتمامها لاهِثاً وراء الدنيا، عاجزاً عن اللحاق بها، الدنيا تجري أمامه مبتعدة عنه، وهو يجري خلفها ولا يُدركها، إذ كلما حصل على شيء منها طلب المزيد، والدنيا بخيلة شحيحة لا تعطيه جميع ما يرغب به، وإذا أعطته شيئاً مَنعت عنه أشياء، إذ لا تأتي فيها نِعمة إلا بفراق أخرى، فيعيش عَناء ما بعده عَناء، وشقاءً ما بعده شَقاء، ثم تنتهي به إلى القبر فقيراً حقيراً لا يلوي على شيء. وهذا أسوأ البؤس، ومنتهى الخسران.
الدنيا محطة على الطريق الى الآخرة
وإن كان يعتقد بالآخرة، وأَنَّها نهاية رحلته الوجودية، وأنَّ الدنيا ليست سوى محطة على الطريق إلى تلك الدار، وأن الآخرة دار القرار، وفيها تكون الحياة الحقيقية حيث لا موت فيها ولا فناء، وأن الشَّقاء الحقيقي والسَّعادة الحقيقية في الآخرة لا في الدنيا.
فمن المؤكَّد أن تكون الأولوية عنده للآخرة لا للدنيا، فيختار التَّعب في الدنيا ليرتاح في الآخرة، ويختار الفَقر في الدنيا لِيَغنى في الآخرة، ويختار النَّقص في الدنيا لِيَنال التمام والكمال في الآخرة.
فهو يصبُّ اهتمامه على الآخرة، ويتطلع بكل عمل يعمله، أو موقف يتبناه، إلى نتائجه في الآخرة، فإن كان نافعاً له فيها فَعَلَه، وإن كان ضارّاً له فيها اجتنبه، والقاعدة التي يقيم عليها سلوكه هي ما قاله الإمام أمير المؤمنين عليه السلام : "مَا خَيْرٌ بِخَيْرٍ بَعْدَهُ النَّارُ، وَمَا شَرٌّ بِشَرٍّ بَعْدَهُ الْجَنَّةُ، وَكُلُّ نَعِيمٍ دُونَ الْجَنَّةِ فَهُوَ مَحْقُورٌ، وَكُلُّ بَلَاءٍ دُونَ النَّارِ عَافِيَةٌ".
النقص في الدنيا ربح في الآخرة
وما يجب إلفات النظر إليه: أنَّ النقص في الدنيا ربح في الآخرة، والنقص في الآخرة خسارة في كليهما، من يجعل أولويته الدنيا يخسر الآخرة، أما من يجعل أولويته الآخرة فلا يخسر من الدنيا شيئاً، وذلك لسببين اثنين:
الأول: أنَّ الإقبال على الدنيا دون الآخرة ينسيه الآخرة، ولا يزيده في الدنيا عما قُسِمَ له فيها، ولك قارئي الكريم أن تستطلع آراء أهل الدنيا وطُلّابَها فإن وجدتَ أحداً يدّعي أنه حصل على كل ما يرغب به في الدنيا فأعلمني وأنا شاكر لك سلفاً، وإن وجدتَ واحداً عاش حياته هانئاً سعيداً سليماً من الأمراض والمتاعب والمنغِّصات فأعلمني كذلك.
الثاني: أنَّ الإقبال على الآخرة لا يمنعه من أخذ ما قُسِمَ له في الدنيا، يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "وَاعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ، أَنَّ الْمُتَّقِينَ ذَهَبُوا بِعَاجِلِ الدُّنْيَا وَآجِلِ الآخِرَةِ، فَشَارَكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ، وَلَمْ يُشَارِكهم أَهْلُ الدُّنْيَا فِي آخِرَتِهِمْ، سَكَنُوا الدُّنْيَا بَأَفْضَلِ مَا سُكِنَتْ، وَأَكَلُوهَا بِأَفْضَلِ مَا أُكِلَتْ، فَحَظُوا مِنَ الدُّنْيَا بِمَا حَظِيَ بِهِ الْمُتْرَفُونَ، وَأَخَذُوا مِنْهَا مَا أَخَذَهُ الْجَبَابِرَةُ الْمُتَكَبِّرُونَ، ثُمَّ انْقَلَبُوا عَنْهَا بِالزَّادِ الْمُبَلِّغِ، وَالْمَتْجَرِ الرَّابِحِ، أَصَابُوا لَذَّةَ زُهْدِ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ، وَتَيَقَّنُوا أَنَّهُمْ جِيرَانُ اللهِ غَداً فِي آخِرَتِهِمْ".
بقلم /الباحث في الدراسات القرآنية / بلال وهبي