مع انطلاقة عملية "طوفان الأقصى"، في الـ 7 من شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي، استيقظ العرب والمسلمون، على آمال جديدة، بعد أن سيطرت على مسار تاريخهم الأحداث، ظُلمات متراكمة، عاماً بعد عام، خاصةً بعد نتائج "الربيع العربي"، الذي لم يخرج عن المسار الأميركي، دراسةً وتخطيطاً وإدارةً، وقد تصاعد هذا الأمل بشكل متسارع، بعد استمرار المقاومة العسكرية الأسطوري، رغم الجرائم الإسرائيلية الهائلة، التي لم يشهد لها مثيل في الزمن الإعلامي الافتراضي المفتوح.
على الرغم من الدوافع الفلسطينية البحتة، التي دفعت حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، لاتخاذ قرار العملية العسكرية الضخمة، والتي هي بمثابة ملحمة حقيقية، من التخطيط والتنفيذ والنتائج، لكنها بنتائجها المتجاوزة لحدود فلسطين، إلى المدى الإقليمي الأقرب والأبعد، وحتى على المستوى الدولي، تحوّلت من اليوم الأول إلى زلزال عالمي، على المستوى السياسي والاقتصادي والأمني، مترافقاً بإرباك واضح، على مستوى كلّ قادة المنطقة العربية والإسلامية، إضافة إلى القادة الغربيين.
الإرباك لم يتوقّف على قادة الدول، التي تجاوزت بعلاقاتها مع الكيان، كلّ الحدود المرفوضة شعبياً وأخلاقياً، بل وصل إلى قادة المحور، الذين استيقظوا على حدث، لم يعهدوه بهذا الحجم، ولا بتداعياته المتجاوزة للحدود غير القابلة للسيطرة، مما دعا قادة المحور للاستنفار على مدار الساعة، مترافقاً ذلك بالتدخّل العسكري المباشر، من قبل المقاومة في لبنان، في شمال فلسطين المحتلة، فتشكّل أقرب ما يكون لغرفة العمليات المشتركة.
والأمر لم يتوقّف على الجانب العسكري، بل كان بالتوازي مع العمل الدبلوماسي، فطبيعة الحدث، وزلزاليّته، يقتضيان استنفاراً دبلوماسياً، هو أقرب لحالة الطوارئ السياسية، وخاصةً من قبل الجانب الإيراني، وهو الجانب الوحيد من دول المحور، القادر على الحركة، بعد تجميد الفعالية السياسية السورية، في إثر الحرب فيها.
كلا الجانبين سياسياً وعسكرياً، تمّ العمل عليهما بالتوازي ضمن ثلاثة مسارات، ففي المسار السياسي كان لا بدّ من وضع تصوّر سياسي مشترك بين دول المحور وقواه، لإدراك الجميع بأن ردة الفعل الإسرائيلية والأميركية، ستتجاوز كلّ التصوّرات الممكنة، فكانت جولة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، إلى العراق ولبنان وسوريا، بغاية تعزيز الانتصار الكبير لحركة حماس، ومنع الاستفراد بها، والعمل على رسم حدود التدخّل العسكري، الإسرائيلي الأميركي، بما يحافظ على بقاء المقاومة الفلسطينية، وانتصارها، كي يُصرف هذا الانتصار في خدمة عودة القضية الفلسطينية، إلى موقعها الحقيقي، كقضية مركزية عالمية.
المسار الثاني كان باتجاه العمل على تحشيد القوى الإقليمية والدولية، لمنع امتداد الحرب، التي أصبحت تهديداً عالمياً، وليست داخل فلسطين المحتلة فقط، مع خشية الجميع من انفجار المنطقة، في وجوههم، والانزلاق نحو حرب إقليمية واسعة، لها بُعد تدميري شامل، ولا يمكن أن يُستثنى منها أحد. ومن هنا كان التوجّه نحو أنقرة، والتواصل مع المملكة العربية السعودية، وهما الدولتان اللتان يمكنهما أن تؤدّيا دوراً أساسياً، في نجاح الدعوة لمؤتمر قمة إسلامية في جدّة، وتشكيل قوة ضاغطة من العالم الإسلامي، على الولايات المتحدة، لإيقاف المجزرة بحق الفلسطينيين.
المسار الثالث هو البدء بالمفاوضات غير المباشرة، عبر الوسيط القطري في الدوحة، الذي يتمتّع بالقبول بين الولايات المتحدة من جهة، وبين إيران وحركة حماس، من جهة ثانية، للوصول إلى قرار سريع بوقف إطلاق النار، وفتح المعابر، وإدخال المساعدات، إلى غزة.
تمّ العمل على المسارات الثلاثة، ففي المسار الأول تمّ الاتفاق على القيام بإجراءات عسكرية، ضمن الحدود التي تدعم حركات المقاومة في فلسطين، وتمنحها قدرة أكبر على المواجهة، برفع مستوى الاستهداف المتدرّج للقوات الأميركية، في سوريا والعراق، وباستهداف المراكز الإسرائيلية، من قبل حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي، في لبنان، وأنصار الله في اليمن، والمقاومة الإسلامية في العراق، وأيضاً ضمن الحدود، التي لا تؤدي بالانزلاق نحو الحرب الإقليمية، التي لا يريدها أحد، سوى رغبات واضحة للشعوب.
والمسار الحمائي السياسي مستمر حتى الآن، والذي يمكن أن يؤدي إلى اجتماع عربي، يوم السبت المقبل، في 11 تشرين الثاني/نوفمبر، في جدّة، وبعده بيوم اجتماع لدول منظمة المؤتمر الإسلامي، وكلا الاجتماعين يمكنهما أن يشكّلا ضغطاً على الإدارة الأميركية، لاتخاذ قرار وقف إطلاق النار، عبر مجلس الأمن.
والمفاوضات في قطر مستمرة، وقد أدّت للكشف عن عدة مبادرات، دولية وإقليمية، ولم تحصل على موافقة الأطراف بعد، لأنها بطبيعتها تعبّر عن الانتصار لأي طرف منهما، وهي ترتبط بمدى قدرة كل من "المجتمع" الإسرائيلي والمجتمع الفلسطيني، على تحمّل الخسائر.
لا يمكن لهذه الجولة من الصراع مع هذا الكيان، أن تكون نهائية، فإسقاطه مرتبط بالصراع على بنية النظام الدولي، وهو بالأساس لُبّ النظام الغربي، وعنوان استمراره، وهذا الإنجاز الذي تمّ تحقيقه، هو إنجاز مزدوج، من هذا الجانب، فهو الخطوة الأكبر، في مسار طويل، من النجاحات المتراكمة لقوى المقاومة، بتسريع التآكل الداخلي لهذا الكيان، وهو نجاح آخر على طريق انكفاء نظام الهيمنة العالمي، الذي تقوده الولايات المتحدة، من جهة ثانية.
الانتصار الاستراتيجي الأول، قد تحقّق في الساعات الأولى من الملحمة، بغض النظر عن كل النتائج السلبية التي حصلت، إن كان بجرائم قتل المدنيين، أم بتدمير المشافي والمؤسسات والبيوت، والانتصار الاستراتيجي الثاني لا خيار إلا بتحقيقه فلسطينياً بالدرجة الأولى، فالإسرائيليون لا يمتلكون رفاهية الوقت، ولا قدرة لديهم على تحمّل المزيد من الضغوط، في ظل مجتمع منقسم على نفسه، وتمتلك قوى المقاومة في فلسطين القدرة الكاملة على إسقاط كل الأهداف التي وضعها نتنياهو، ومعهم حركات المقاومة، التي تقود معركة الإشغال والضغوط، على الأميركيين والإسرائيليين، وقد تنتقل إلى المستوى الأعلى، منعاً لسقوط أيّ حركة مقاومة.
مُنحت القوى الغربية المدمّرة لغزة وأهلها، فرصة 6 أيام، بين كلمة السيد نصر الله الأولى بتاريخ الثالث من هذا الشهر، والكلمة الثانية في الحادي عشر منه، بما يمنح قوى العدوان الفرصة لتغيير قرارها، والذهاب نحو واقع جديد، وهي فرصة معزّزة باتساع عمق استهداف الكيان، بعد وصول صواريخ المقاومة إلى نهاريا، بالقرب من حيفا، على بعد 40 كم من الحدود اللبنانية، وارتفاع وتيرة الهجوم على القواعد الأميركية في العراق وسوريا، بما يؤكّد استمرار الصراع والمواجهة، على مراحل متعددة، لا هُدن حقيقية فيما بينها.
أحمد الدرزي / كاتب سوري
الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً