وكما كان توقعي (وكنت ملوماً عليه عند البعض) ظهر السيد حسن في 90% من الخطاب هادئاً محافظاً على نبرة كلامه، غير متوتر، حذرا في تعابيره، متزناً في لغة الجسد، بحيث اختار وكتب مسبقاً ما يريد قوله بإتقان، لئلا يقع في الاعتباطية والارتجال، ولهذا جاء خطابه أقل شدةً وأخف حدةً مما كان يسوّق له المنبهرون، ويزعمه المحلّقون والمتعجّلون والمصفقون.
كان البعض يريدونه أن يخطب فيُزبد ويُرعد ويوعد ويهدّد وينذر ويحذّر ويقرّر أن يدمر ويشمّر عن ساعد خوض الوغى، دون أيّ ترو وتمحيص.
وكتب البعض (قبل الخطاب) كثيراً من التهويلات والمبالغات ووعد قرّاءه بالمفاجآت وزعم أنه ستقوم القيامة وأن القارات السبع تقف على رجل ونصف (أو "إِجِر ونص"!!!!) واستشهدوا بكل آية وردت فيها كلمتا نصر الله، في إيحاء غير مباشر للقارئ بأنها تنطبق على الرجل، وبلغت تكهناتهم ومبالغاتهم أفق السماء في ارتفاعها، وكأنه سيحل اليوم الموعود في لحظة خطاب السيد، أو ربما تنطبق السماء على الارض!!!!
وباعتقادي أن هذه ظاهرة غير صحية لعلنا نوفق لاحقاً لدراستها، لكن بالعودة إلى الخطاب فإن السيد أعقل وأعمق مما قاله المحبون المنبهرون المبالغون، وأكثر حنكة ودراية بالظرف الذي يمر به حزبه ولبنان، ومن خلفه ايران، اقتصادياً وداخلياً وإقليمياً، وعلى صعيد نسيج اللُّحمة الداخلية وجماهير الشعب، ولا يمكن أن ينزلق سماحته في مهاوي المغامرات، ويعرّض الحرث والنسل للهلاك والدمار، دون دراسة للمعطيات القائمة، ويعلن قرار دخول المواجهة بطريقة غير مدروسة ملياً وبأسلوب غير محسوب النتائج، ولذلك يعتقد البعض أن زيارة اللواء قاءاني والموفد القطري لبيروت أدت إلى تعديل الخطاب وتهدئة الأسلوب وتقليل "ديسيبل" الصوت وتعديل النبرة وتغيير الوعيد وإبقاء الباب مواربا امام خيارات مفتوحة والتلويح بأننا لن نبدأ في الحرب بل سندافع لو هوجم لبنان، مثلما قيل في طهران بأنهم سيدافعون عن بلدهم لو هوجمت ايران، وحسب.
هل يعني هذا التخلي عن غزة؟
هل يصدق ادعاء من قالوا (ورطوهم وتركوهم)؟
هل يعد تراجعا عن التصريح السابق بأنه لو شنت اسرائيل الهجوم البري على غزة فسنقوم باكتساح الجليل؟
أكيد (لا).
من ناحية أخرى، وكما نعرف فإن الحرب خدعة وربما أراد السيد حسن أن يوهم العدو بأنه لن يكون طرفا أساسياً في الحرب بين إسرائيل وغزة لو لم يحدث اعتداء على لبنان، ولن يفتح الحزب الجبهة اللبنانية لو لم تتصرف إسرائيل بتهور ضد شعبه وتضرب المناطق اللبنانية المحاذية لشمال فلسطين المحتلة. أي أراد السيد طمأنة الداخل اللبناني وضبط النفس وإعادة الامن إلى النفوس القلقة من احتمال أن تلقى بيروت ما لقيته غزة من صنوف الدمار والإبادة الجماعية والضحايا، بل شاء السيد أن ينضّج الرأي العام لدى شعبه بأنه ومقاتلي الحزب مستعدون ل(الدفاع) لو أعتدي على لبنان، فحسب.
البعض يشير إلى [ما وصف به المدعو أيدي كوهين خطاب السيد بأنه عقلاني وأنه سحب كلامه من أنه سيتدخل مباشرة لو بدأت إسرائيل هجومها البري على غزة، وها هي قد بدأته منذ أسبوع] بأنه كلام في غير محله، وهكذا زعم بالقول: [نتفهم حاجتكم لبعض عبارات الحماسة والتهديد والوعيد، ودمت ذخراً لدعم صمود دولتنا]!! وهو كلام فارغ.
بينما المحلّل الإسرائيلي (نيتسان سادان) قال: [كان بإمكان نصر الله بالأمس أن يكسب شعبية مئات ملايين العرب، لكنه لم يفعل.. بالأمس تيقنت أنه لا يمكن مقارنة عبد الناصر بزعيم حزب الله، فجمال عبد النّاصر رغم ذكائه، رضخ للحماسة والشّعبويّة فتهوّر وخسر الحرب معنا، أما نصر الله الذي كان بإمكانه بالأمس أن يكسب شعبية مئات الملايين بكلمة واحدة ، فضَّلَ أن يخسر شعبيته كي يحقّقَ نصراً ساحقاً في المستقبل، هذا الرّجل استثنائيّ، إنّه مُخيف].
أما الفلسطينيون فهم يتفهمون الظرف ويدركون سداد الرأي وصوابية النهج الذي تضمنه خطاب السيد، ولهذا صرح داود شهاب مدير المكتب الاعلامي في حركة الجهاد الإسلامي قائلا: أحيي السيد حسن نصرالله وأرى أن خطابه شكّل إسناداً معنوياً وسياسياً وميدانياً واسعاً للشعب الفلسطيني، وفتح الخيارات على مصراعيها أمام الفصائل الفلسطينية، وأن الشعب الفلسطيني ليس وحيداً، وليس مسموحاً لإسرائيل الاستفراد به، وإن السيد نصر الله يدرك ماذا يعني أن تنكسر غزة، وهي لن تنكسر، وكلام السيد نصر الله كان صادقاً وأميناً.
وعندما تنقل قناة (روسيا اليوم) عن وزير إسرائيلي بأنه (لا يستبعد استخدام القنبلة النووية في غزة) ندرك مصداقية ما قالته مصادر عديدة من أن مرفأ بيروت قد تعرض لقنبلة نووية اسرائيلية صغيرة قبل بضع سنوات.
صحيح أن السيد كشف عن رسائل تهديد امريكية شديدة اللهجة باستهداف ايران نفسها في حال استمرار هجمات حزب الله على الحدود مع الكيان الصهيوني، وقال: “اميركا بعثت لنا رسالة بأن جنوب لبنان اذا دخل الحرب فإننا قد نقصف ايران وليس لبنان فحسب”. إلا أنه خاطب الأميركيين، “أساطيلكم لا تخيفنا ولم تخفنا في يوم من الأيام وأساطيلكم التي تهددون بها أعددنا لها العدة أيضاً”. معتبراً: إن التصعيد في الجبهة اللبنانية مرهون بأمرين:
الاول مسار التطور في غزة .. والثاني هو سلوك العدو الصهيوني تجاه لبنان، موضحاً ان “كل الاحتمالات في جبهتنا اللبنانية مفتوحة وكل الخيارات مطروحة”. واضاف مخاطباً الأميركيين، إن “التهديد والتهويل علينا وعلى المقاومين في منطقتنا لا يجدي نفعاً”.
إذن، يمكننا هنا أن ندرك طبيعة التعديل الذي حصل في الموقف ولغة الخطاب بحيث كان متوقعاً -قبل التعديل- ان يحدد السيد مهلة أو تاريخا محددا لوقف المجازر في غزة وفك الحصار عنها وفتح معبر رفح لدخول المساعدات، وإلا فإن حزب الله سيدخل المعركة، إلا أن موفدي طهران والدوحة نصحاه بالتريث في ذلك واجتناب التصعيد والوعيد الشديد كي لا يقع ما ليس في الحسبان.
ختاما نقول إن السيد قد أحسن تقدير الموقف لأنه يدرك طبيعة الوضع في لبنان وحتى في سوريا وايران، وأي قائد محنك وفذّ يسأل نفسه قبل إطلاق الصاروخ الأول (ماذا في اليوم التالي؟ ومن سيقف معي ومن سيغضّ النظر في ساعة العسرة ويتحاشى الانزلاق معي ويعتذر بظروفه؟ وما هي الكلفة المتوقعة؟ وهل شعبي قادر عليها؟ وما هي مكاسب المعركة؟ وكيف سأبرّر للعالم نقضي للقرار 1701الصادر عن مجلس الأمن الدولي؟)
وبالتأكيد فإن السيد نصر الله أدرى بوضعه، ولديه الحكمة وفصل الخطاب. وقد ورد في حديث رواه عمر بن علي بن أبي طالب عن أبيه ع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (الشاهد يرى ما لا يرى الغائب) [أنظر: علل الدارقطني ج 4 ص 58].
[وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ] (فاطر/14)
بقلم: د. رعد هادي جبارة /باحث ودبلوماسي سابق