انخرطت الصين خلال السنوات الأخيرة بقوة في غرب اسيا مع تراجع الدور الأميركي فيه وتحويل واشنطن تركيزها نحو بحر الصين الجنوبي والمحيط الهادئ، فرعت المصالحة السعودية الإيرانية، وأبدت رغبتها في التوسط بين الفلسطينيين والإسرائيليين، كما زار الرئيس الصيني شي جين بينغ السعودية أواخر العام الماضي وعقد القمة العربية الصينية الأولى. وعلى الصعيد الاقتصادي، ازداد حجم التبادل التجاري بين الصين وغرب اسيا، ووُقعت العديد من الاتفاقيات في مختلف المجالات بين الجانبين.
تريد الصين اليوم أن تؤدي دوراً أكبر في الملف السوري، وأن يكون لها حضور كثيف في سوريا اقتصادياً أو سياسياً. ولهذا، زار الرئيس السوري بشار الأسد بكين تلبية لدعوة نظيره الصيني لإجراء مباحثات مع المسؤولين الصينيين.
وتُعد هذه الزيارة أول زيارة لرئيس سوري منذ عام 2004، حين زار الرئيس بشار الأسد الصين وأجرى مباحثات مع الرئيس الصيني السابق هو جينتاو تتعلق بقضايا السلام ومكافحة الإرهاب والتعاون الثنائي بين البلدين. وتُعتبر الصين ثالث دولة غير عربية يزورها الأسد منذ اندلاع النزاع في سوريا عام 2011 بعد روسيا وإيران.
تأتي زيارة الرئيس الأسد لبكين في وقت تشهد المنطقة تغيرات كبيرة تتمثل بالمصالحة السعودية الإيرانية واستئناف دمشق علاقاتها مع دول عربية عدة، على رأسها السعودية، وما ترتب على ذلك من استعادة سوريا مقعدها في جامعة الدول العربية بعد تعليق عضويتها منذ العام 2011، وحضور الرئيس الأسد القمة العربية في جدة في شهر أيار/ مايو الماضي.
وتأتي الزيارة أيضاً بعد توتر كبير في العلاقات الأميركية الصينية، وازدياد المنافسة بين أكبر اقتصادين في العالم على منطقة غرب اسيا، التي باتت تحظى بأهمية كبيرة لدى الأطراف الدولية، ولا سيما بعد الحرب الروسية الأوكرانية.
وإذا كانت زيارة الأسد لبكين مدفوعة بطابع اقتصادي لبلد مزقته الحرب ودمرت اقتصاده وشردت أهله وأصبح هدفاً ومطمعاً لدول إقليمية ودولية، فما هدف الصين من دعوتها الرئيس الأسد لزيارتها؟ بمعنى آخر، ماذا تريد بكين من دمشق؟
منذ بدء النزاع في سوريا، لم تنخرط الصين عسكرياً في الصراع، بل قدمت الدعم المالي والسياسي لسوريا، فأرسلت المساعدات الإنسانية خلال تفشي وباء كورونا، وبعد الزلزال المدمر الذي ضرب تركيا وسوريا خلال شهر شباط/ فبراير الماضي.
على الصعيد السياسي، امتنعت بكين مراراً عن التصويت على القرارات التي كانت ترى فيها تدخلاً في شؤون سوريا الداخلية، واستخدمت حق النقض (الفيتو)، وطالبت مراراً وتكراراً بإزالة العقوبات الأحادية الجانب التي فرضتها واشنطن على دمشق، واتهمت الولايات المتحدة بسرقة 82% من النفط السوري.
وكان للصين دور في عودة سوريا إلى الحضن العربي، إذ إن دمشق كانت حاضرة في المناقشات التي أجراها الرئيس الصيني في أثناء زيارته السعودية. وأيضاً، كانت ضمن المباحثات التي أجراها الرئيس شي مع نظيره الإيراني إبراهيم رئيسي عندما زار الأخير بكين أواخر شهر شباط/ فبراير الماضي.
كذلك، زار المبعوث الصيني الخاص لشؤون غرب اسيا تشاي جوان سوريا العام الحالي، وأعرب بعد لقائه الأسد عن استعداد بكين لمواصلة أداء دور بناء في تحسين علاقة سوريا بالدول العربية.
على صعيد الأزمة في سوريا، قدمت بكين مقترحات لحلها عدة مرات، منها عام 2021 عندما زار وزير الخارجية الصيني وانغ يي دمشق، وقدم اقتراحاً لحل القضية السورية من 4 نقاط. يقوم الاقتراح على احترام سيادة سوريا وسلامة أراضيها واحترام خيار الشعب السوري، وتسريع عملية إعادة الإعمار، ورفع العقوبات ومكافحة الإرهاب، وإيجاد حل سياسي وحل الخلاف بين الفصائل السورية من خلال التشاور والحوار.
تهدف الصين من وراء دعوتها الرئيس بشار الأسد لزيارتها إلى مناقشة جملة من القضايا الاقتصادية والسياسية. على الصعيد الاقتصادي، أبدت بكين مراراً رغبتها المشاركة في إعادة إعمار سوريا التي قدرت تكاليفها بـ400 مليار دولار. ومن ناحية أخرى، لدمشق موقع استراتيجي مهم في مبادرة "الحزام والطريق" التي انضمت إليها العام الماضي.
وترغب بكين في أن تستثمر في مرفأي طرطوس واللاذقية؛ ففي عام 2018، قدمت الصين 800 مولد للطاقة الكهربائية لميناء اللاذقية. وإذا كانت روسيا تستثمر في ميناء طرطوس، فإن ذلك لا يمنع من أن تشارك الصين أيضاً، نظراً إلى العلاقات المتينة بين موسكو وبكين، أو أن تمنح سوريا الصين حق الاستثمار في ميناء اللاذقية.
ويثير مشروع الربط السككي بين إيران والعراق وسوريا اهتمام الصين، إذ يمكن عبره نقل البضائع الصينية إلى أوروبا وأفريقيا عبر البحر الأبيض المتوسط وربطه بمبادرة "الحزام والطريق"، إذ يصل المشروع السككي بين خطوط مدينة الشلامجة الإيرانية في محافظة خوزستان وخطوط السكك الحديدية العراقية في مدينة البصرة، وينتهي عند ميناء اللاذقية في سوريا.
واستعداداً للبدء بتنفيذ المشروع السككي، وضع رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، مطلع الشهر الحالي، الحجر الأساس للمشروع. وخلال شهر نيسان/ أبريل الماضي، زار وزير الطرق والبناء الإيراني مهرداد بذرباش دمشق، وتحدث إلى المسؤولين السوريين بشأن مشروع الربط السككي.
وربما تريد الصين المضي قدماً بهذا المشروع اليوم أكثر من أي وقت مضى، بعد إطلاق مشروع الممر الاقتصادي الهندي الأوروبي عبر غرب اسيا خلال قمة مجموعة العشرين التي عقدت مؤخراً، والغرض من الممر هو منافسة مشروع "الحزام والطريق".
وفي إطار آخر، من المحتمل أن تكون الصين راغبة في المجازفة والعودة إلى الاستثمار في قطاع النفط في سوريا واستكشاف آبار جديدة. وفي هذا الإطار، عينت شركة "سينوبك" الصينية للطاقة والكيماويات المملوكة للدولة قبل عدة أشهر مديراً جديداً لفرعها في سوريا.
أتى هذا التعيين بعدما علقت الشركة أنشطتها بسبب الحرب. وللشركة حقول نفط في شمال شرقي سوريا الذي يتمتع بالحكم الذاتي. وكانت الشركة قد أجرت عام 2016 مفاوضات مع الإدارة الذاتية الكردية حول مستقبل حقولها، لكن المفاوضات لم تفضِ إلى نتيجة.
وربما تعيد الصين اليوم التفاوض مع الإدارة الذاتية لشمال سوريا وشرقها، ولكن نجاح المفاوضات أو فشلها يتوقف على مدى تدخل واشنطن التي زار وزير دفاعها الأسبق كريستوفر ميللر المنطقة، والتقى مسؤولين في الإدارة الذاتية.
أما على الصّعيد السّياسي، فقد باتت بكين تنخرط بقوة في صراعات غرب اسيا. وستسعى خلال زيارة الرئيس الأسد للتباحث في إيجاد حل للخلافات بين الفصائل السورية، وستعمل أيضاً على التقريب بين سوريا والدول العربية، بعدما شهدت العلاقات بين الجانبين فتوراً خلال الأشهر الماضية، إذ أوقفت الرياض ترميم سفارتها في دمشق، بعدما كان من المتوقع أن يُعاد فتح السفارات وتعيين الدبلوماسيين بين البلدين في حزيران/ يونيو الماضي.
ولن يغيب عن المباحثات وجود المسلحين الإيغور في سوريا، إذ إن بكين تخشى عودة المتطرفين الإيغور إلى إقليم شينجيانغ والقيام بأعمال تهدد أمنها.
تحمل زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى الصين إشارات عديدة، أبرزها تقديم بكين الدعم للرئيس الأسد، وتحدّي الإدارة الأميركية التي تحاول عزل الرئيس السوري، وإفشال عقوباتها الأحادية الجانب على سوريا، واستفزازها في منطقة غرب اسيا، رداً على التحركات والاستفزازات الأميركية في بحر الصين الجنوبي.
ستُقدم بكين الدعم المالي والسياسي لدمشق، وستبدأ الشركات الصينية الاستثمار في المناطق التي تسيطر عليها الدولة مع تأمين حماية لهذه الشركات. وربما بعد الانخراط في اليمن وسوريا، يأتي دور لبنان الذي يتخبط في صراعاته السياسية ويشهد أوضاعاً اقتصادية صعبة.
موقع الميادين