والسبب في ذلك يعود إلى تجارب قديمة حاولت من خلالها واشنطن وضع منهجية ومخطط للمواجهة، كان دائماً ما يصطدم بردٍّ إيراني لا يستفيد من المخاطر محوّلاً إياها إلى فرصة فقط، بل يعمد إلى إضعاف تأثير المخاطر اللاحقة. وهذا الأمر كان واضحاً منذ الأيام الأولى لانتصار الثورة، إلى يومنا الحالي.
وبمعزل عن استغلال اللحظة أو التحضير لها أو حتى توجيهها، ضد إيران، فإن الغرب كان ولا يزال، يعمل ضمن مسارٍ أمني وسياسي واجتماعي لا يستهدف النظام فقط، بل جميع أجزاء وتفاصيل القوة الإيرانية. لكن، وبما أن النظام يرتبط بتلك الأجزاء ارتباطاً وثيقاً باعتبار أنها مبنية على السيادة ومواجهة الضغوط، فإن تفكيك مصادر القوة الإيرانية يلزمه تفكيك النظام بالدرجة الأولى وليس العكس. لذلك، لم يتوجّه الغرب إلى إحداث شرخٍ اجتماعي، أو إلى ضرب القوة العسكرية، أو الصعود العلمي والتكنولوجي بشكل مباشر فقط، بل عمد إلى توجيه المخطط نحو "النظام" بحد ذاته، ما سيؤثر على جميع القطاعات المذكورة تلقائياً.
وعليه، فإن إظهار أو إثبات فشل الرهانات الغربية، في محاولات استهداف "النظام" يمكن رصدها من خلال تحرك الأخير في عكس الأهداف التي سعى الغرب إلى تحقيقها من خلال هجمته، ولا سيما على مدار العام الحالي. والأمر لا يتعلق بالعلاقة بين النظام وشعبه، بل في قدرة النظام على التحرك السياسي والعسكري والأمني بدعمٍ شعبي.
تيقّنت إيران منذ البداية أنها توجّه هجمة مركّبة، تتداخل فيها عوامل سياسية واجتماعية محرّكة، بينما تحولت المسألة الأمنية إلى عامل مستغِل للأحداث، وفي الوقت ذاته الغاية منها، بمعنى أن الانفلات الأمني في إيران، وبروز مسلحين في الشوارع، وحدوث اشتباكات مسلحة بين الأمن ومسلحين "مجهولين"، حتى وإن وضعها النظام أو أي جهة في دائرة "استغلال" التظاهرات وحرفها، لكنها وفق العقلية الغربية، تعتبر هدفاً لتلك التظاهرات.
عمدت السلطات في إيران إلى الفصل بين الاحتجاجات، وبين أعمال الشغب، وبين الهجمات المسلحة، مع العلم أن كل مسارٍ محرّك للآخر لأن الفوضى تؤسس لكل ذلك. لكن الهدف من الفصل، كان توجيه الجهود في اتجاه الأخطر (المسلحين) ومنعهم من حشد المشاغبين أو التأثير في المحتجين. ونجحت بذلك السلطات الإيرانية على مدار عام (ليس فقط خلال الأحداث) في عزل النشاط الإرهابي عن النشاط الاحتجاجي، وهذا مهّد إلى إحداث تأثيرٍ معاكس، أي أن إحداث الفوضى الذي كان يراد له أن يتم ضمن اتجاه معين، تم إحباطه من خلال السير في الاتجاه المعاكس.
خروج الملايين في مساندة للنظام ضد الشغب والمسلحين، لم يرد منه إعطاء انطباع بأن السلطات تحرّك الموالين لها ضد المناوئين، هذا سيشكّل في الصورة العامة ضرراً على البلاد، وسيعبّر عن انقسامٍ فيها. ما يمكن استنتاجه من خلال هذا الحراك، هو الرسالة التي يريد إيصالها، والتي تدور حول فكرة الاستقرار في وجه الفوضى. تأييد إجراءات النظام بكونها دليلاً على تأييد الاستقرار ليست بروباغندا من قبل الأخير، بل هي في الواقع تعبير عن الصورة الحقيقية التي أظهرتها أعمال الشغب، وهذا الأمر كان مقتلاً لأهداف تلك الهجمة، التي أظهرت عن وجهها سريعاً، في محيطٍ إقليمي تجرّع ويلاتها.
في الحديث عن تفكيك الهجمة الغربية، لم تكن صورة إيران بمنأى عن "التشويه" أمام أصدقائها بالدرجة الأولى. يستخدم الغرب دائماً، مسألة حقوق الإنسان في التضييق على خصومه، ويتذّرع بها لفرض "العقوبات"، وأيضاً في عزل الدول عن محيطها، وعن علاقاتها الدولية والإقليمية. لم تكتفِ طهران بفرضية أن "الغرب لا يحق له الحديث عن حقوق الإنسان نتيجة جرائمه"، فهي تعلم جيداً أن منطلقات هذا الأمر ليست أخلاقية، ليتم الرد بالطريقة ذاتها. لذلك، كان الحراك الإيراني في مواجهة التضليل المتعلق بحقوق الإنسان يستند إلى مفهوم أساسي وهو حماية وتحصين لا بل أيضاً تعزيز العلاقات الإقليمية والدولية، مع التشديد على أن الخلفية التي ينطلق منها الغرب في مقاربة هذا الملف سياسية.
في الأشهر التي تلت ذلك، واصلت إيران حراكها الإقليمي والدولي، لتأكيد أن ما يحصل، وما يتم التخطيط له لن يؤثر على حضورها أولاً، بل سيعزز منه ثانياً. ومن عضوية "شنغهاي" إلى "بريكس"، مروراً بعودة علاقاتها مع دول الخليج (الفارسي)، وتعزيزها مع روسيا والصين ودول الجنوب، والجولات في أفريقيا، ومواجهة "العقوبات"، كانت طهران تتنقل في مساحة أوجدتها لنفسها، وحاول الغرب إغلاقها. وارتد ذلك على واشنطن نفسها، التي وجدت نفسها مجبرة على تفاوضٍ مع إيران تحصل من خلاله الأخيرة على أموالها المجمدة، ومعتقلين لها.
في أواخر آب/أغسطس الماضي، وبعد عام، قال الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، إن الغرب "فشل في عزل" بلاده، ملمّحاً إلى احتمال استئناف المحادثات بشأن إحياء الاتفاق النووي. الرسالة هنا من قبل طهران واضحة ومباشرة، بأن ما حاول الغرب الضغط عبره، خلال الأحداث التي شهدتها البلاد للتأثير في مجريات أي محدثات للاتفاق النووي، لم يعد له أي مبرر، لفشله، ولا سيما أن طهران لم تتنازل ولم تُعزَل.
واجهت إيران محاولات عزلها، وتوجيه أحداثها الداخلية في إطار إعاقة علاقاتها الخارجية، من خلال: أولاً، ربط مصالحها بمصالح الدولة الحليفة أو الصديقة لها مثل الصين وروسيا (ودول أخرى)، وتأكيدها الدائم أن ما تقدّمه لا يمكن الاستغناء عنه أو القفز فوقه. ثانياً، من خلال فتح قنوات تواصل مع دول محيطة على خصومة معها، تترافق مع إشارات أن الجنوح للتفاوض أو التفاهم، أفضل من التآمر الذي سيفشل، وهذا ما حصل بالتفاهم مع السعودية، الذي دخلته إيران برعاية صينية بعد أن أثبتت للرياض أن تمويلها للشغب والجماعات المسلحة، لن يؤتي بنتيجة وارتداداته ستكون خطيرة.
تفكيك الهجمة من الداخل، والتحرك خارجياً لمنع محاولات العزل، كان يترافق مع مراقبة جادة وحثيثة لما يسعى إليه الاحتلال الإسرائيلي، نظراً لأن دور إيران المركزي في المنطقة يتمحور حول ذلك. اليد الإسرائيلية في الشغب والأعمال الإرهابية، كانت واضحة وفق ما كشفته الاستخبارات الإيرانية، وخطوات طهران كانت سريعة في محاصرتها من خلال اعتقال الخلايا. في الوقت ذاته، فإن الرسائل الإيرانية نحو الاحتلال الإسرائيلي تواصلت ضمن سياسة الردع، إما من خلال قصف واستهداف الجماعات المسلحة العميلة لـ"إسرائيل" وبشل حركتها في البلاد وخارجها (حزب كوملة، التنظيمات الانفصالية في كردستان)، أو من خلال رسائل غير معلنة ومباشرة تمنع الاحتلال الإسرائيلي من استغلال الأحداث في سياقٍ عملٍ أمني.
تمكّنت إيران سريعاً من كف يد "إسرائيل" عن استغلال أو توجيه الأحداث الداخلية وفق ما تريد. في 28 أيلول/سبتمبر العام الماضي، نقلت وسائل إعلام إسرائيلية عن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية متابعتها للأحدث في إيران، وعن تشاؤم المسؤولين "من فرص نجاح الاحتجاج في أن يوصل إلى تغيير"، و"ضياع حلم انهيار إيران من الداخل المستمر منذ عام 1979".. هذا كان حديث الصهاينة بعد أيام من اندلاع الشغب. ولكن اللافت هو الرسائل التي اختصرتها القيادات الإسرائيلية بقولها: إن إيران فرضت معادلة "إذا أذيتمونا سنؤذيكم". وبذلك، لم تؤثر الأحداث على موقع إيران في المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي وعلى دعم حركات المقاومة على امتداد جغرافيا تلك المواجهة. وأيضاً، تمكّن إيران من ردع "إسرائيل" في الداخل.
على مدى عام، وخلال تفكيكها للهجمة الغربية، لم تكن السلطات الإيرانية مهووسة بأن الشعب يجب أن يكون موالياً لها، وانتهى. تحرّكت طهران وفق مفهوم "النماذج"، أي تقديم النموذج الذي يؤمّن مصالح الشعب، ويجعله بعيداً عن أي استغلال وتجييش، مع الإثبات دائماً أن النموذج الآخر ليس في صالحه. وبتقديمها مصالح الدولة العليا على المصالح الفئوية مع ربطها بمصالح الشعب، تمكّنت طهران من استيعاب الاحتجاج، ورد الهجمة الغربية.. وخلال العام، سقطت الرهانات الغربية، نعم، لكن المواجهة مستمرة، وستشتدّ مع اشتداد قدرة إيران على حماية نفسها.
الميادين/ عباس محمد الزين