العقل يقابل الجهل، وهما نقيضان حيث يكون الأول لا يكون الثاني، وهو أعظم نعم الله على الإنسان، فبه يعرف الله تعالى، وبه يقيم علاقة سوية معه، وبه يفهم الكون، وبه يستطيع أن يستفيد من قوانينه ما يُسَهِّل عليه حياته. وعلى العقل تدور رحى التكاليف والأوامر الإلهية، فإذا وُجِدَ في الانسان توجَّهت إليه، وإذا ذهب منه ذهبَت، كذلك الجزاء والعقاب والثواب يقوم على وجود العقل وعدمه، ولذلك يحتل العقل المكانة الأسمى من بين نعم الله الإنسان، ويعتبر ميزته الأهم التي ميزته عن سائر الحيوانات، وإلا فهو مشترك معها في بقية الأمور من بدن، وعواطف، وإدراك للحاجات وسوى ذلك.

وقد سُمِّيَ العقل عَقلاً لأنه يعقل صاحبه عن التورُّط في المهالك ويحبسه عن فعل القبيح، وقد يأتي بمعنى الجمع والربط فيكون العاقل هو الذي يجمع رأيه وأمره على شيء إما للإفادة أو للخروج منه، كما لو كان واقعاً في مأزق أو ورطة. وقد يأتي بمعنى الفَهم والعلم، أو إدراك الشيء على حقيقته، أو ما يقابل الغريزة التي لا اختيار للإنسان في أصل وجودها، نعم له القدرة على ضبطها، وكلها معانٍ متقاربة وتلتقي على جامع مشترك وهو القدرة التي تتحكم في أمر الإنسان وحركته.

وجاء العقل في القرآن كتعبير عن القوة المتهيِّئة لقَبول العلم، وكذا العلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة، واستعمل العقل في أحاديث المعصومين (ع) بمعنى الفهم والدَرْكِ، وبمعنى الفكر، والحبس، والحصن، والملجأ.

وعندما نراجع الروايات الشريفة نجد أنها تصب اهتمامها على بركات العقل وآثاره، فهي تعرِّفه بآثاره فعندما يُطرَح السؤال التالي: ما هو العقل يأتي الجواب على لسان الإمام الصادق (ع):" مَا عُبِدَ بِهِ الرَّحْمَنُ واكْتُسِبَ بِهِ الْجِنَانُ". ومن ذلك: العَقلُ أن تَقولَ ما تَعرِفُ، وتَعمَلَ بِما تَنطِقُ بِهِ" ومثل: "العَقلُ أنَّكَ تَقتَصِدُ فَلا تُسرِفُ، وتَعِدُ فلا تُخلِفُ، وإذا غَضِبتَ حَلُمتَ" ومثل: "إنَّما العَقلُ التَّجَنُّبُ مِنَ الإثمِ، والنَّظَرُ في العَواقِبِ، والأخذُ بِالحَزمِ" ومثل: "العَقلُ حِفظُ التَّجارِبِ" وسُئِلَ الإمام الحسن (ع) عن العقل فقال: "التَّجَرُّعُ لِلغُصَّةِ حَتّى‏ تَنالَ الفُرصَةَ".

في الجوهرة الكريمة التي نحن بصدد الحديث عنها، يكشف الإمام أمير المؤمنين (ع) عن ثلاثٍ من صِفات العاقل:

الأولى: تمتُّعه بقدرة فائقة على الاحتمال، احتمال المَتاعِب والمَصاعِب، وما يعانيه في الحياة من فقر وحاجة، واحتمال ما يكون من زلّات إخوانه وأخطائهم. فلا ينسحب من السباق إلى النجاح الدنيوي والأخروي عند أول عقبة، ولا يتراجع عندما يهجم عليه التعب، ولا يتنازل حين يفتقر، ولا يسيطر الغضب عليه عند أي زلة تكون من إخوانه، فالعقل يمنعه من جميع ذلك.

الثانية: إجماله في الطلب، والقناعة بما يرزقه الله تعالى، وهذا لا يعني ألّا يسعى وراء رزقه لأن عدم السعي وراء الرزق معصية بلا شك، فهو يسعى ولكنه لا يَنْكَبّ على الدنيا ولا يتكالب عليها، ولا يجعلها أكبر همِّه ومبلغ طموحه، وقد جاء تفسير الإجمال في الطلب في قول رسول الله (ص): "أيُّها النَّاسُ اتَّقوا اللَّهَ وأجملوا في الطَّلبِ فإنَّ نفسًا لن تموتَ حتَّى تستوفيَ رزقَها وإن أبطأَ عنْها، فَاتَّقوا اللَّهَ وأَجْمِلوا في الطَّلبِ، خُذوا ما حَلَّ ودَعُوا ما حَرُمَ"

الثالثة: إفضاله على غيره والإحسان إليهم ابتداء من غير سؤال منهم، ودون أن ينتظر منهم مقابلاً، كما يكون الإفضال بالعَفو والصَّفح والغُفران والتجاوز عن الزلَّات، وقد رُوِيَ عن رسولُ اللَّهِ (ص)أنه قال: "إذا جُمِعَ الخَلائِقُ يَومَ القِيامَةِ نادى‏ مُنادٍ: أينَ أهلُ الفَضلِ؟ فَيَقومُ أُناسٌ وهُم يَسِيرٌ فَيَنطَلِقُونَ سِراعاً إلَى الجَنَّةِ، فَتَلَقّاهُم المَلائكةُ فيَقولونَ: إنّا نَراكُم سِراعاً إلَى الجَنَّةِ! فيَقولونَ: نَحنُ أهلُ الفَضلِ، فيقولونَ: ما كانَ فَضلُكُم؟ فيقولونَ: كُنّا إذا ظُلِمنا غَفَرنا، وإذا أُسِي‏ءَ إلَينا عَفَونا، وإذا جُهِلَ علَينا حَلُمنا، فيقالُ لَهُم: ادخُلُوا الجَنَّةَ فَنِعمَ أجرُ العامِلينَ".

السيد بلال وهبي