وهي، إلى ذلك، دليلٌ جليٌّ على مواساة جدّه النبيّ الأكرم وجدّته خديجة الكبرى وأبيه أمير المؤمنين وأمّه الصدّيقة الكبرى فاطمة بنت محمّد وأخيه الحسن المجتبى وأبنائه الأئمة المعصومين، عليهم السلام، خصوصاً صاحب العصر والزمان مهديّ هذه الأمّة.
وقد نَدَبَت الشريعةُ الغَرّاء إلى زيارته، وبيّنَت ما في ذلك من الفضل، وما يَلحقُ الزائرَ من الثوابِ والأجر. ففي الرواية عن بشير الدّهّان، عن أبي عبد الله الصادق، عليه السلام، قال:
"إنّ الرجلَ لَيَخرجُ إلى قبر الحسين، عليه السلام، فله إذا خرجَ من أهله بأوّل خطوة مغفرةُ ذنوبِه، ثمّ لم يزل يقدّسُ بكلّ خطوة حتّى يأتيَه، فإذا اتاه ناجاه اللهُ، تعالى، فقال: عبدي سَلٔني أُعطِك، أُدعُني أُجِبٔك، أُطلبٔ منّي أعطِك، سَلٔني حاجةً أقضِها لك. قال: وقال أبو عبد الله، عليه السلام: وحقٌّ على الله أنٔ يُعطيَ ما بَذَلَ". كامل الزيارات لابن قولويه/ ص253، ح2.
على أنّ هناك أشكالاً وأساليبَ لتحقيق الزيارة، ولكلّ واحدٍ منها فضلُه وثوابُه الذي تكفّلَ الأئمّةُ المعصومون، بشرحه وبيانه. وأحدُ هذه الأساليبِ الجليلة الزيارةُ مشياً على الأقدام، لما في ذلك من المواساة والتأسّي بموكبِ السبايا الزينبيّ، الذي ذَرَعَ آلافَ الأميال في الليل وفي النهار، تحتَ هجير الشمس اللاهبة، من كربلاء إلى الكوفة إلى الشام، ثمّ إلى كربلاء، ومن بعدها إلى مدينة الرسول.
ففي الرواية عن الحسين بن ثوير، قال: قال أبو عبد الله الصادق، عليه السلام:
"يا حسين، مَن خرجَ من منزله يريد زيارة قبر الحسين بن علي، عليهما السلام، إنٔ كان ماشياً كتبَ اللهُ له بكلّ خطوة حسنةً ومَحا عنه سيّئة، حتّى إذا صار في الحائر كَتبَه اللهُ من المُفلحين المُنجحين، حتّى إذا قضى مناسكَه كتبَه اللهُ من الفائزين، حتّى إذا أراد الانصرافَ أتاه ملكٌ فقال: إنّ رسولَ الله، صلى الله عليه وآله، يقرؤك السلام ويقول لك: استأنف العمل فقد غُفر لك ما مضى."
كامل الزيارات/ ص253، ح1.
وقد كان للزيارة في العشرين من شهر صفر خصوصيّةٌ كبيرة ودلالةٌ مميّزة، حيثُ إنّه يكون قد مضى أربعون يوماً على استشهاد الحسين ومَن معه. وأوّل مَن قام بهذه الزيارة هو الصحابيّ الجليلُ جابر بنُ عبد الله الأنصاريّ، حيثُ التقى هناك بموكبِ السبايا الذين كانوا عائدين من الشام إلى المدينة المنوّرة. حيثُ ذَكَرَ الشيخ أبو جعفر الطوسي أنّه حصلَ في يوم العشرين منه رجوع حُرَمِ أبي عبد الله الحسين، عليه السلام، من الشام إلى مدينة الرسول، صلى الله عليه وآله، وورود جابر بن عبد الله الأنصاريّ إلى كربلاء لزيارة أبي عبد الله الحسين، عليه السلام، فكان أوّلَ مَن زارَه من الناس وهي زيارة الأربعين. تهذيب الأحكام/ ج2، ص17.
ثم روى الشيخ الطوسي حديثَ الإمام الحسن العسكري، عليه السلام:
"علاماتُ المؤمنِ خمسٌ: الجَهٔرُ ببسم الله الرحمن الرحيم ، وصلاةُ إحدى وخمسين، وزيارةُ الأربعين، والتختُّمُ باليمين، وتَعفيرُ الجَبين".
وكان من الحوادثِ التي رافقَت وفودَ موكب السبايا على كربلاء، في ذلك اليوم، عودةُ الرأس الشريف للإمام الحسين وإلحاقُه بالجثمان المطهّر في قبره. قال أبو ريحان البيرونيّ: "في العشرين من صَفَر، رُدّ الرأسُ الشريفُ إلى جثّته فَدُفِنَ معها، وفيه زيارة الأربعين ومجيءُ حُرَمه بعد انصرافهم من الشام." الآثار الباقية/ص331.
فهو اليوم الذي تَجَدّدَت فيه الأحزانُ، وهبّت فيه رياحُ الأسى تُسفي على النّفوس العاشقة، كما كانت تُسفي على موكبِ أبناء الرسالةِ المحمّديّة، سنة إحدى وستّين، وكانت تُسفي على الجثامين الطاهرة للحسين وصحبه من الشهداء، ثلاثة أيّامٍ في صعيد نينوى، قبل دفنها.
وقد تحوّلَت مسيرةُ الأربعين، مع تمادي السنين والقرون، إلى ظاهرةٍ لا نظيرَ لها. وفي هذا العصر، صار لشعيرة زيارة ومسيرة الأربعين دلالاتٌ وأبعادٌ متجدّدة، يمكنُ إبرازُ مجموعةٍ من هذه الأبعاد، على سبيل المثال لا الحصر:
ــ البُعدُ الدّيني: حيثُ إنّ موقعَ الحسين والعبّاس والأكبر والقاسم وزينب وزين العابدين من النبيّ وخديجة وعليّ وفاطمة والحسن ومن أئمّة الهدى، من الرسالة المحمّدية هي ممّا لا يحتاج إلى كثير بيان. وممّا يُضيف إلى هذا البُعد من المَغازي والمعاني، هو ذلك التشويق والحثّ الوارد في الروايات والأحاديث التي تَزخَرُ بها كُتبُ المسلمين، عن رسول الله وعليّ وفاطمة والأئمّة المعصومين، بالإضافة إلى ما تضمّنته تلك الأحاديث، من اعتبار هذا الفعل شعيرةً وعبادةً يُتقرَّبُ بها إلى الله، وكذلك ما أظهرَت فيه من الأجر والثواب اللذين يتكفّلُ اللهُ، تعالى، بحفظهما في رصيد الزائرين والعاملين.
ــ البُعدُ الثوريّ: لا يَخفى أنّ حركةَ الحسين، في سبيل الإصلاح في أمّة رسول الله، كانت ثورةً صافيةً ونهضةً حاسمةً في وجهِ السلطة القاهرة المستبدّة الظالمة، وقد انتهت إلى ما لا مناصَ منه من المآلات التي تصير إليها الثورات، من تقويضِ دعائمِ السطة القائمة، من خلال انفتاحِ البابِ مع سلسلةٍ من الثورات التي لم تتوقفٔ إلّا بزوالِ الدولة الأمويّة. إضافةُ إلى النتيجة المباشرة لثورة الحسين، وهي شهادتُه وشهادةُ أصحابه.
وقد تحوّلَ الحسين إلى نموذج فريدٍ مُلهمٍ لجميع الثائرين والأحرار، عبر العصور، خصوصاً في هذا الزمن، زمن الإمام الخمينيّ الذي اعتبر أنّ "كلّ ما عندنا هو من عاشوراء الحسين، ومن محرّم وصفر". وهو زمن الثورة الإسلامية في إيران والمقاومة الإسلاميّة في لبنان.
البُعدُ الولائيّ: يمتاز الأربعين بغلبةِ دوافع المواساة لرسول الإنسانيّة وآله الكرام، ولصاحب العصر والزمان. وكذلك، فإنّ دافعَ التأسّي بالسبايا ومسيرتهم من خلال المشي على الأقدام من النجف الأشرف، حيث مرقدُ أمير المؤمنين، إلى كربلاء المقدّسة، حيث مرقد الحسين والشهداء معه. ولَعمري، فإنّ هذا الفعلَ الصارخ لَهو تأكيدٌ للولاء إلى الله ورسوله والمؤمنين " الذين يقيمون الصلاة ويُؤتون الزكاة وهم راكعون"، هو عليّ بن أبي طالب، ثمّ الحسن والحسين، ومن بعده للتسعة المعصومين من ذرّيّة الحسين.
ــ البُعدُ الوجدانيُّ: مراسمُ الأربعين ليست فقط ظهوراً للحزن، إنّما هي انفجارٌ للأسى، وجريانٌ لأنهار الدموع، وحالةٌ فريدةٌ من تَفَطُّر القلوب التي تَغلبُ على المشاركين، بحيثُ تَمنعُ عليهم الكلامَ والنّظرَ في الوجوه. ويكفي أنٔ يَحضر معنى الذكرى حتّى يَهيمَ المشاركون على وجوهِهم، غيرَ قادرين على التماسُك وامتلاك النّفس عن التصرّفات البريئة الصادقة الناضحةِ بالحزن والأسى. بل أكثر من ذلك، يكفي أنٔ تُلقي نظرةً على المجاميعِ الموالية لآل بيت النبيّ في أقطار الأرض، لتُدركَ أنّ مشاعرَ الأسى على الحسين تُهيمنُ على جميع الشرائح والأعمار، ممزوجةً بمشاعر الحسرة على عدم التمكّن من الالتحاق بركب "المشّاية".
ــ البُعدُ القيميّ: إنّ ثورةَ الحسين كانت ثورةَ الإصلاح على الانحراف، والصلاح على الفساد، والعدالة على الظلم، والعبوديّة لله وحده على عبوديّة الجاه والمال والسلطان والولاة والحكّام والمستبدّين الظالمين، ثورة الإيثارِ على الاستئثار، والعطاء على المنع والحرمان، ثورة الوفاء والالتزام على الخذلان والغدر، ثورة الاستقامة والثبات على الانحراف والتنقّل من خندقٍ إلى خندق...
وأهلُ الأربعين هم الذين بَرزوا إلى المشهد، متسلّحين بهذه القيم، ومترجمين لهذه الفضائل، ومبيّنين لهذه الخصال السامية.
البُعدُ الاجتماعيّ: خَرَجَ الحسينُ إلى كربلاء وكانت نواةَ رَكٔبِه أسرتُه وأبناؤه وإخوتُه وأُسَرُهم، وكذلك بنو عمومته، وبعضُ الأصحاب كان مع عائلاتهم. فكانت الأسرةُ كلّها منخرطةً في المواجهة، لكلّ فردٍ وظيفتُه، وكُلٌّ قامَ بدوره وأدّى وظيفتَه.
واليوم، يمكنُك أن تشاهدَ أنّ خدّامَ الزّوار هي عائلاتٌ بأكملها، يعطّلون مصالحَهم ويتركون تكسّباتِهم في سبيل خدمة الزائرين. بل يُخلون منازلَهم ويهيّئونها لاستضافة الزائرين، ويبذلون أموالَهم لشراء حاجيّات الزائرين والوقوف على راحتهم وإطعامهم وإيوائهم وتوفير سُبُلِ خدمتهم، وحتّى معالجة أوجاعهم وأمراضهم، ووقفِ كلّ إمكاناتهم في سبيل زوّار أبي عبدالله.
بل إنّ مواكبَ الزائرين صار ينضوي فيها أفرادُ الأسرة، وحتّى العشائرُ وأبناءُ القرى والمُدن، وبإمكانك ملاحظة ذلك من خلال قراءة أسماء المواكب التي تَفِدُ على الحضرة الشريفة والهيئات المقيمة للعزاء والمضائف المنتشرة على جوانب طُرُقِ "المشّاية". ومن طريف ما يمكن الإشارةُ إليه إلى وجود الكشّافين الذين يكمنون لمواكب المشّاية من أجل اصطياد بعضهم، لكن لغرض أصطحابهم إلى بيوتهم ومضاربهم لتتمكّن العائلة من خدمتهم بما يليق بمعاني العشق والحبّ. ومع ذلك، فإنّهم لا يتوقّفون عن إبداء الاعتذارات عن تقصيراتهم وإظهار خوفهم من ألّا يكونوا لائقين أو ليسوا بمستوى "مسؤوليّة هذه الخدمة".
وممّا ينبغي بيانُه، هو أنّ الكثير من العائلات الموالية من أنحاء العراق وإيران لبنان والبحرين وغيرها، صاروا يحجزون لأنفسهم دوراً في التجنّد لخدمة الزوّار وفتح المضائف وبذل الأموال وتخصيص الميزانيّات في سبيل نيل شيءٍ من هذا الشرف.
ـــ البُعد السياسيّ: بدون أدنى جهد من التتبُّع، يمكن أن نفهمَ أنّ الحركةَ الحسينيّة هي حركةٌ سياسيّة بكامل ميزاتها، من رفض البيعة، إلى عودة الموكب إلى المدينة، مروراً بالملحمة الكربلائيّة، إلى موكب السبايا في الطريق والمحطّات، إلى الخُطَبِ الزينبيّة والسّجّاديّة القاصعة في قصور السلطان في الكوفة والشام.
وما يَفيض بالدلالات السياسيّة، اليوم، هو مناسبة الأربعين، وما يَحضرُ فيها من الرايات الموالية للحقّ، والتي تفرز الولاءات والعداوات، وتصنّف الجبهات والكيانات الفاعلة في عالم اليوم. من الحشد الشعبيّ المقدّس وفصائله وقادته، إلى الجمهوريّة الإسلاميّة والولي الفقيه والقادة، إلى المقاومة الإسلاميّة في لبنان وراياتها وقائدها الأمين وشهدائها، إلى رايات اليمن والبحرين وفلسطين وأفغانستان.
وأكثر من ذلك، يمكنُ للمواكِب لطريق المشّاية أن يرى صورَ شهداء ساحات محور المقاومة على الأعمدة المرقّمة وعلى جوانب الطرقات، ويمكن قراءة اللافتات المنصوبة ومضامينِها، لنعرف إلى أيّ مستوى بلغَ التماهي بين المناسبة وبين السياسة. وإذا أضفنا الفعّاليّات والأنشطة التي تواكبُ المناسبة، من النّدوات والمحاضرات والمسابقات والمؤتمرات، ومن ضمنها مؤتمر نداء الأقصى، لأدركنا ما للسياسة والقضايا العامّة والمحوريّة من حضور في هذه التظاهرة السنويّة.
ــ البُعدُ الوحدويّ: إنّ الحسينَ هو رمز الإنسانيّة ورائد قيمِها النبيلة، وكانت ثورتُه من أجل تحقيق أهدافها السامية، وبَذَلَ نفسَه وأبناءَه وصحبَه في سبيلِ تجسيدِ معانيها النقيّة الصافية، وكانت ثمرةُ نهوضه تحقيقاً لِمُثُلِها العُليا. ولم يكن الحسين محدوداً بإطارٍ ضيّق أبداً، إنّما هو نبراس الأحرار وقدوة الثوّار وأيقونة الأطهار وترجومة الإيثار... كان كذلك وما زال ولَسوف يبقى كذلك، إلى أن يأذنَ الله لحفيده بالخروج ليملأ الأرض كلّها ب"يا لثارات الحسين" قسطاً وعدلاً بعدما مُلِئَتٔ ظلماً جَوراً.
في الأربعين، اليوم، ترى كلّ شيعة الحسين من جميع أقطار الأرض وجهات العالم، ترى المرجعيّات المتنوّعة والتيّارات المختلفة، وأبناء المدارس والألوان واللغات على تبايُنها منضويةً في مناسبة الأربعين. وترى، كذلك، أبناء العراق على اختلافهم، من عرب وكُرد وآشوريين وأيزيديّين وتُركمان، شيعةً وسنّةً ومسيحيّين وغيرهم.
وأيضاً تجدُ تلاوين الضيوف والزوّار والمشاركين من جميع الأقطار، من الأحرار المسلمين، على اختلاف مذاهبهم، وغير المسلمين، من قارّات العالم منصهرين في مسيرة الحسين، وذائبين في المعاني الحسينيّة. وحتّى الأنشطة والفعّاليّات المُرافقة للمناسبة، التي تعني قضايا الشعوب، لا سيّما الشعب الفلسلطيني المظلوم، فعّاليّات مواجهة الحرب على القرآن الكريم كتدنيسه وتحقيره وحرقه، وعلى القيم، كمحاولات تفكيك الأسرة والشذوذ والرذيلة والإباحيّة، ووووو.... ترى فعاليات طرح وسبل مواجهات هذه التحدّيات العالميّة في صلب هذه التظاهرة العظيمة.
ـــ بُعدُ القوّة: إنّ مسيرةَ الأربعين هي تجمّعٍ بَشريٍّ تاريخيّ هائل، ليس له نظير، وهو لا يحصلّ لمرّة يتمية، إنّما يتكرّر في كلّ عام، بل هو يتعاظمُ قوّة بزيادة المشاركين، واتّساع رقعة التنوّع، واشتداد فعاليّات المناسبة، وسَعة التغطية الإعلاميّة والدعائيّة والخبريّة والتوثيقيّة والبحثيّة ووو...
إنّ سيّدَ هذه المناسبة هو الحسين بن عليّ، وقائد هذا المحيط البشريّ الهائل هو المهديّ، وبوصلة هذا المسير هو الإسلام المّحمّديّ الحسينيّ المهدويّ " الإسلام المّحمّديّ الأصيل"، ووجهته إلى الله، وخلاصتُه " لا إله إلّا الله ولا نعبدُ إلّا إيّاه".. حتّى تُسلّم رايةَ الحسين، راية العدل الإلهيّ، إلى حفيده المهديّ.
*الشيخ يوسف سرور