الجواب: يظهرُ من بيانات ثورة التوَّابين قبل انطلاقها أنَّهم يرون أنفسَهم قد خذلوا الامامَ الحسين (ع) فقد ذكر المؤرِّخون أنّه بعد قَتلِ الإمام الحسين (ع) أظهرَ الكثيرُ من الناس -من أبناء الكوفة- الندمَ على تقاعسِهم عن الانتصار للإمام الحسين (ع) وتلاوموا فيما بينهم ورأوا أنفسَهم أنَّهم قد أخطئوا خطأَ كبيراً حيث قٌتل الحسين (ع) قريباً منهم وكان بوسعِهم أن ينتصروا له ولكنَّهم لم يفعلوا، وكان أشدَّهم ندامةً مَن كاتبوه واستنصروه فحين استجابَ لهم تلكئوا وتقاعسوا عن مؤازرتِه بذرائع صاروا يُقرُّون بعد مقتل الحسين (ع) أنَّها واهيةُ وأنَّها لا تصلحُ للاعتذار بها عند الله جلَّ وعلا لذلك وجدوا أنْ لا طريقَ للخلاص من تبعاتِ هذه المُوبِقة إلا بالثأر من بني أمَّيَّة وممَّن آزرهم على قتل الحسين (ع) ولهذا لجئوا إلى خمسةٍ من أعيان أهل الكوفة وممَّن هم على رأيهم في هذا الشأن وهم: "سليمان بن صرد الخزاعي وكانت له صحبة مع النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، والمُسيّب بن نجبة الفزاري؛ وكان من أصحاب عليّ وخيارهم، وعبد اللَّه بن سعد بن نفيل الأزدي، وعبد اللَّه بن وال التيمي، ورفاعة بن شدّاد البجلي(1).
مجلس الإقرار بخذلان الحسين (ع):
"ثمّ إنّ هؤلاء النفر الخمسة اجتمعوا في منزل سليمان بن صرد وكانوا من خيار أصحاب عليّ، ومعهم أناس من الشيعة وخيارهم ووجوههم. قال: فلمّا اجتمعوا إلى منزل سليمان بن صرد بدأ المسيّب بن نجبة القوم بالكلام، فتكلّم فحمد اللَّه وأثنى عليه وصلّى على نبيّه (صلّى اللَّه عليه وآله)، ثمّ قال:
أمّا بعد، فإنّا قد ابتُلينا بطول العمر والتعرّض لأنواع الفتن.. وقد كنّا مغرمين بتزكية أنفسنا وتقريظ شيعتنا، حتّى بلا اللَّه أخبارنا فوجدنا كاذبين في موطنين من مواطن ابن ابنة نبيّنا (صلّى اللَّه عليه وآله)، وقد بلغتنا قبل ذلك كتبُه وقدمَت علينا رُسلُه، وأعذر إلينا يسألُنا نصره عوداً وبدءاً، وعلانية وسرّاً، فبخلنا عنه بأنفسنا، حتّى قُتل إلى جانِبنا؛ لا نحن نصرناه بأيدينا، ولا جادلنا عنه بألسنتنا، ولا قوّيناه بأموالنا، ولا طلبنا له النصرة إلى عشائرنا، فما عذرُنا إلى ربّنا وعند لقاء نبيِّنا (صلّى اللَّه عليه وآله)، وقد قُتل فينا ولدُه وحبيبُه وذرّيته ونسله؟! لا واللَّه لا عذر دون أن تقتُلوا قاتلَه والمُوالين عليه، أو تُقتَلوا في طلب ذلك، فعسى ربّنا أن يرضى عنّا عند ذلك، وما أنا بعد لقائه لعقوبته بآمن.
أيّها القوم، ولّوا عليكم رجلًا منكم؛ فإنّه لابدّ لكم من أميرٍ تفزعون إليه، وراية تحفّون بها، أقول قولي هذا وأستغفر اللَّه لي ولكم. قال: فبدر القوم رفاعة بن شدّاد بعد المسيّب الكلام، فحمد اللَّه وأثنى عليه وصلّى على النبيّ (صلّى اللَّه عليه وآله)، ثمّ قال:
أمّا بعد، فإنّ اللَّه قد هداك لأصوب القول، ودعوتَ إلى أرشد الأمور، بدأتَ بحمد اللَّه والثناء عليه والصلاة على نبيّه (صلّى اللَّه عليه وآله)، ودعوتَ إلى جهاد الفاسقين، وإلى التوبة من الذنب العظيم، فمسموع منك مستجاب لك مقبول قولك، قال: ثمّ تكلّم عبد اللَّه بن وال وعبد اللَّه بن سعد، فحمدا ربّهما وأثنيا عليه، وتكلّما بنحوٍ من كلام رفاعة بن شدّاد.."(2).
أقول: هذا النصُّ صريحٌ في أنَّهم يرون أنفسهم قد خذلوا الإمام الحسين (ع) وأنَّه كان بوسعِهم الانتصارُ له لكنَّهم لم يفعلوا.
لا يُقال إنَّ هذا الإقرار لم يكن أكثر من اعتراف المؤمن بالتقصير حينما لا يُوفَّق للطاعة فإنَّ ذلك منافٍ لقول المسيَّب بن نجبة (رحمه الله): "وقد بلغتنا قبل ذلك كتبُه وقدمَت علينا رُسلُه، وأعذرَ إلينا يسألُنا نصره عوداً وبدءاً، وعلانية وسرّاً، فبخلنا عنه بأنفسنا" فإنَّ الواضح من هذه الفقرة من كلامه أنَّ الحسين (ع) كان يستصرخُهم ويستنصرُهم عوداً وبدءً وعلانيةً وسرَّاً يعني أنَّه كان قد واتر عليهم الطلب يستنصرهم حتى قطع عليهم كلَّ عذر، ولم يكن (ع) ليفعل ذلك لو لم يعلم أنَّ بمقدورهم الانتصار له أو لا أقلَّ من المؤازرة والمواساة.
ثم أنَّ المسيَّب (رحمه الله) أقرَّ بأنَّ خذلانهم للحسين (ع) بلغ من الشناعةِ أنَّهم لم يكتفوا بعدم نصره بأيديهم بل كان منهم الإحجامُ حتى عن المجادلة عنه بألسنتِهم والتقوية له بأموالِهم والحثِّ لعشائرهم على مناصرته، ولهذا تمكَّن أتباعُ المعسكر الأموي من محاصرتِه وقتله وقتلِ أُسرته والقلائل ممَّن التحقَ به.
ثم إنَّه تكلم في هذا المحضر سليمان بن صرد بعد أن توافقوا على تأميره عليهم فقال فيما قال: ".. إنَّا كنا نمدُّ أعناقنا إلى قدوم آل نبيِّنا (ص) ونُمنِّيهم النصرَ ونحثُّهم على القدوم، فلمَّا قدموا ونينا وعجزنا وادهنَّا وتربَّصنا وانتظرنا ما يكون حتى قُتل فينا ولدينا ولدُ نبِّينا (ص) وسلالتُه وعصارتُه وبضعةٌ من لحمِه ودمِه، إذ جعل يستصرخُ ويسألُ النصَفَ فلا يُعطاه، اتَّخذه الفاسقونَ غرضاً للنبلٍ ودريئةً للرماح حتى أقصدوه وعدوا عليه فسلبوه، ألا انهضوا فقد سخِط ربُّكم، ولا ترجعوا إلى الحلائل والأبناء حتى يرضى الله، واللهِ ما أظنُّه راضيا دون أن تُناجزوا من قتله أو تبيروا، ألا لا تهابوا الموتَ، فوالله ما هابَه امرؤٌ قطُّ إلا ذلَّ .."(3).
وهذا النصُّ يؤكِّد شعورَهم العميق بالذنب لخُذلانهم سيِّد الشهداء (ع) وأنَّهم تلكئوا وتوانوا في نُصرته وأصابهم الخَوار والعجز، وكانوا ينتظرون ما تتمخضُ عنه الأحداث دون أنْ يعملوا على صناعتها، وهذا هو معنى التربُّص، وظلوا كذلك واهنين حتى قُتل ابنُ النبي(ص) وعصارتُه بين ظهرانيهم واستفرده الفاسقون وصيروا منه غرضاً لنبالهم ورماحهم، فالتوابونَ وإن لم يكونوا شاركوا في قتله ولكنَّهم خذلوه، فكأنَّهم أسلموه لعدوِّه وعدوِّهم.
نصٌّ آخر يعبِّر عن الإقرار بالخذلان:
وكذلك فإنَّ ممَّا يؤكِّد على أنَّ التوابين كانوا يرون أنفسَهم أنَّهم خذلوا الإمام الحسين (ع) ما وقع منهم -بحسب ما يذكره المؤرخون- قبل انطلاقهم لمحاربة جيش الشام من ذهابهم إلى قبر الحسين (ع) وإقرارهم عند قبره بخذلانهم له وتعبيرهم عن مرارة الندم والحسرة التي اجتاحت نفوسهم فممِّا ذُكر في ذلك- كما في تاريخ الطبري- أنَّه: "لمّا انتهى سليمان بن صرد وأصحابه إلى قبر الحسين، نادوا صيحةً واحدة: يا ربّ، إنّا قد خذلنا ابن بنت نبيّنا، فاغفر لنا ما مضى منّا، وتُب علينا إنّك أنت التوّاب الرحيم، وارحم حسيناً وأصحابه الشهداء الصدّيقين، وإنّا نُشهدك يا ربّ أنّا على مثل ما قُتلوا عليه، فإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين"(4).
وذكر ابن الأثير في الكامل قال: ".. ثم ساروا فانتهوا إلى قبر الحسين فلمَّا وصلوا صاحوا صيحةً واحدة، فما رُئي أكثر باكياً من ذلك اليوم، فترحَّموا عليه وتابوا عنده من خذلانه وترك القتال معه، وأقاموا عنده يوماً وليلة يبكون ويتضرَّعون ويترَّحمون عليه وعلى أصحابه، وكان من قولِهم عند ضريحه اللهم ارحم حسينا الشهيد ابن الشهيد المهدي ابن المهدي الصديق ابن الصديق اللهم إنا نُشهدك أنا على دينهم وسبيلهم وأعداء قاتليهم وأولياء محبِّيهم، اللهم إنا خذلنا ابنَ بنت نبينا فاغفر لنا ما مضى منا وتب علينا.."(5).
النصوص تدلُّ على صدق توبتهم:
وعلى أيِّ تقدير فالذي يظهرُ ممَّا أفاده المؤرخون أنَّهم -أو كثير منهم - صدقوا في توبتِهم وأبلوا بلاءً عظيماً عند ملاقاة أعداء آل محمد (ص) في عين الوردة، فمِمَّا ورد في ذلك ما ذكره الطبري وغيره قال: ".. ورأى سليمان بن صرد ما لقى أصحابه فنزل فنادى عباد الله من أراد البكور إلى ربِّه والتوبة من ذنبِه والوفاء بعهده فإليَّ، ثم كسر جفن سيفه ونزل معه ناسٌ كثير، فكسروا جفونَ سيوفِهم ومشوا معه وانزوت خيلُهم حتى اختلطت مع الرجال فقاتلوهم حتى نزلت الرجال تشتدُّ مصلتةً بالسيوف وقد كسروا الجفون فحمل الفرسان على الخيل ولا يثبتون فقاتلوهم وقتلوا من أهل الشأم مقتلة عظيمة وجرحوا فيهم فأكثروا الجراح، فلما رأى الحصين بن نمير صبر القوم وبأسهم بعث الرجال ترميهم بالنبل واكتنفتهم الخيل والرجال، فقُتل سليمان بن صرد رحمه الله رماه يزيد ابن الحصين بسهم فوقع ثم وثب ثم وقع، قال فلمَّا قتل سليمان بن صرد أخذ الراية المسيَّب بن نجبة وقال لسليمان بن صرد رحمك الله يا أخي فقد صدقتَ ووفيتَ بما عليك وبقيَ ما علينا ثم أخذ الراية فشدَّ بها فقاتل ساعة، ثم رجع ثم شدَّ بها، فقاتل ثم رجع، ففعل ذلك مراراً يشدُّ ثم يرجع ثم قُتل رحمه الله -يصف بعضُهم بلاء المسيَّب بن نجبة- يقول: والله ما رأيتُ أشجعَ منه إنساناً قطُّ، ولا من العصابة التي كان فيهم، ولقد رأيتُه يوم عين الوردة يقاتل قتالاً شديداً ما ظننتُ أنَّ رجلاً واحداً يقدرُ أنْ يُبلي مثل ما أبلى ولا ينكأ في عدوِّه مثل ما نكأ.."(6).
وخلاصة القول: إنَّ خذلان أهل الكوفة -ممن اعتزل القتال في كربلاء فلم يؤازر الحسين (ع) ولم يُشارك الأعداء في قتاله- أمرٌ غير قابل للإنكار، ولا يختصُّ ذلك بشيعة الكوفة، فعامَّة المسلمين من أبناء الكوفة كانت وظيفتُهم الشرعيَّة المؤازرةَ للإمام الحسين (ع) ولا عذر لمَن كان قادراً فتخلَّف عن نُصرته ومؤازرته، نعم لا يُمكن اثبات الخذلان لكل فردٍ باسمه ولكنَّ ثبوتَ الخذلان من قِبلهم في الجملة ممَّا لا يُمكن انكارُه، وأمَّا التوَّابون فنرجو اللهَ تعالى أن يكون قد قبِل توبة الصادقين منهم.
الشيخ محمد صنقور
-------------------------
1- مروج الذهب -المسعودي- ج3 / ص93، تاريخ الطبري -الطبري- ج4 / ص426، الغارات -ابراهيم بن محمد الثقفي الكوفي- ج2 / ص774، ذوب النضار -ابن نما الحلي- ص73، الطبقات الكبرى -ابن سعد- ج4 / ص292، اسد الغابة -ابن الأثير- ج2 / ص351. الاستيعاب - ابن عبد البر-ج2/ 650، اسد الغابة - ابن الأثير- ج2/ 351
2- تاريخ الطبري -الطبري- ج4 / ص427، وقريباً منه ما أورده البلاذري في أنساب الأشراف ج6 / ص364، الكامل في التاريخ -ابن الأثير- ج3 / ص249، ذوب النضار -ابن نما الحلي- ص75، الفتوح -ابن أعثم- ج6 / ص204.
3- تاريخ الطبري -الطبري- ج4 / ص428، الكامل في التاريخ -ابن الأثير- ج3 / ص250، أنساب الأشراف -البلاذري- ج6 / ص365.
4- تاريخ الطبري -الطبري- ج4 / ص457، أنساب الأشراف -البلاذري- ج6 / ص370.
5- الكامل في التاريخ -ابن الأثير- ج4 / ص178.
6- تاريخ الطبري ج4 / ص465، تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج58 / ص199، ذوب النضار -ابن نما الحلي- ص89.