ومن كلماته (ع)، ما نقله الإمام الباقر (ع) عن أبيه قال: "لما حضرت أبي علي بن الحسين الوفاة، ضمَّني إلى صدره، ثمَّ قال: يا بنيَّ، أوصيك بما أوصاني به أبي - الحسين بن عليّ - حين حضرته الوفاة، وبما ذكر أنَّ أباه (ع) أوصاه به: يا بنيَّ، اصبر على الحقّ وإن كان مرّاً".
وفي كلمة أخرى له، قال فيها: "اصبر على ما تكره في ما يلزمك الحقّ، واصبر عمَّا تحبّ في ما يدعوك إليه الهوى" .
يريد الإمام (ع) في هاتين الكلمتين، أن يؤكِّد على موقف الإنسان في حياته، سواء كان ذلك في حياته الذاتيَّة الفرديَّة مع نفسه، أو في موقفه مع ربِّه، أو في موقفه مع كلّ النّاس، فالقضيَّة لا تختصر بما يعيشه الإنسان من مشاعر اللذَّة أو الألم، بحيث يُقبل على ما يلتذّ به، ويتجنَّب ما يؤلمه، بل أن يعمل على أن يكون موقفه هو الموقف الَّذي يحقِّق له الثَّبات والاستقرار والنجاح في المستقبل، باعتبار أنَّ بدايات اللذّة قد تغري الإنسان، ولكنَّ نهايتها قد تكون مكلفةً ومتعبةً ومميتة، فربما يحسّ الإنسان بلذّة شيءٍ فيأخذ به، ولكن ما إن تتفاعل عناصر هذه اللذّة في موقعها، حتى تخلق له ما يفقده حلاوتها، ويفقده الكثير من ذاتيَّته، وهناك مثل يقول: "ربَّ أكلة منعت أكلات"، وهناك مثل آخر يقول: "السمّ في الدَّسم".
لهذا، لا بدَّ للإنسان من أن يفحص كلَّ ما يأكله، وكلّ ما يعمله، لأنّ العناصر السلبيّة قد تكون خفيَّة، بحيث لا يشعر الإنسان بها.
وهكذا حدَّثنا الإمام الحسين (ع) عندما شبَّه إقدام النَّاس على الدنيا واستغراقهم في ملذَّاتها على حساب مبادئهم، بالعسل، لأنَّ الإنسان عندما يضع العسل على لسانه، فإنَّ لسانه يبقى يتحرَّك ما دام العسل موجوداً عليه، وإذا ما استهلك، فإنَّه يفقد الإحساس بأيِّ شيء.
وبذلك يقول (ع): "النَّاس عبيد الدنيا، والدين لعقٌ على ألسنتهم، يحوطونه ما درَّت معائشهم - أي أنّ بعض الناس يتعلَّقون بالدّين ما دام منسجماً مع أطماعهم ولذَّاتهم، ولكن عندما يخضعون للتّجربة التي يقفون من خلالها بين الحقّ والباطل، بين الدّين والدّنيا، كما وقف الحرّ بين الجنّة والنّار - فإذا محّصوا بالبلاء، قلَّ الديَّانون" ، فإنهم يسقطون. لذلك يقول الإمام (ع): "اصبر على الحقّ"، قد يكون الحقّ صعباً، لكن نتائجه على مستوى الدّنيا والآخرة قد تكون عظيمة جداً.
وفي الحديث الآخر: "اصبر على ما تكره في ما يلزمك الحقّ"، فالحقّ يترتّب عليه مسؤوليَّات كبيرة قد تفرض على الإنسان الخسارة الماديَّة في الدنيا، ولكنَّ النَّتائج سوف تكون لصالحه عندما يواجه الرّبح الكبير في رضوان الله.
"واصبر عمَّا تحبّ في ما يدعوك إليه الهوى". فهوى النَّفس ربّما يدعو الإنسان إلى معصية الله، فيحصل على اللذَّة والشّهوة، ولكن النتائج لا شكَّ سوف تكون ألماً وشقاءً.
فالإمام الحسين (ع) كانت رسالته إلى النّاس أن يكونوا مع الحقّ حتى لو كان الحقُّ مراً، والحقّ كلمةٌ تتحرَّك في جميع الاتّجاهات، فالحقّ في العقيدة هو ما جاء في كتاب الله وسنَّة نبيِّه، والحقّ في الشَّريعة هو ما شرَّعه الله ورسوله، والحقّ في السياسة هو ما تحرَّك من أجل العدل، والحقّ في المجتمع هو ما تحرّك في أداء حقوق المجتمع في علاقاته، وفي الوحدة وفي المحبَّة... وهكذا يجب على الإنسان أن يجعل كلَّ حياته تتحرَّك على أساس الحقّ لا على أساس الباطل.
السيد محمد حسين فضل الله