تسعى الأوساط الإسرائيلية لإيجاد طرفٍ ما تُلقي عليه الملامة فيما حدث، وخصوصاً أن هذه الضربة أتتها من حيث لم تحتسب، وفي جبهة ظنت لسنوات طويلة أنها آمنة، فتراخت قبضتها الأمنية عليها؛ فلطالما اعتبرت "إسرائيل" الحدود المصرية الأكثر هدوءاً والأقل تهديداً مقارنة بحدود غزة أو لبنان، لكن هذه العملية أثبتت أن هذا الأمر ظاهريٌ فحسب، وأن الواقع مختلفٌ تماماً.
ليس متوقعاً أن يشكل هذا الهجوم خطراً على العلاقة بين مصر و"إسرائيل"، فالأخيرة ترى أن "اتفاقية السلام" مع مصر ركيزة مهمة في مفهوم أمنها القومي، وأن العلاقات بينهما "استراتيجية"، ويُنظر إلى الهجوم على جنود الجيش "الإسرائيلي" كحادثٍ عابرٍ استثنائي، وأن التعاون الأمني بين "إسرائيل" ومصر على مستوى عالٍ جداً ووثيق، ولا مصلحة لـ"إسرائيل" ومصر في إلحاق الضرر به.
أضف إلى ذلك أنّ مصر تعمل كوسيط مركزي بين الفصائل الفلسطينية في غزة و"إسرائيل" في أوقات الأزمات، وهي العنوان الأول لأي أزمة تواجهها "إسرائيل" مع غزة، وفي كل مرة تسارع إلى الوساطة، مثلما فعلت في المواجهة الأخيرة مع الجهاد الإسلامي، كما فيما سبقها.
لاشك في أن هجوم الأسبوع الماضي استثنائي ومؤلم لـ"إسرائيل"، على الرغم من عمق التعاون الأمني بين الطرفين، لكن هناك رغبة إسرائيلية دائمة في الحفاظ على الخط الدافئ مع القاهرة. لقد ساعدت "إسرائيل" مصر كثيراً في التعامل مع المشكلات الأمنية، مثل مواجهة خلايا "داعش" في سيناء، وسمحت لها بتعزيز قواتها العسكرية الكبيرة في شبه جزيرة سيناء، بما في ذلك هجمات الطائرات والمروحيات المصرية، على الرغم من أن "اتفاقية السلام" تمنع دخول الجيش المصري إلى سيناء، لأنها منطقة منزوعة السلاح.
وبحسب تحقيق أجرته "نيويورك تايمز"، هاجمت "إسرائيل" أيضاً مئات المرات أهدافاً في سيناء بموافقة من مصر. مرة أخرى، يعيدنا الهجوم الذي نفّذه الشهيد محمد صلاح ببندقيةٍ "شبه بالية" إلى طول الحدود المصرية الممتدة مع فلسطين، وهي حدود بعيدة عن الأنظار ومعقدة للغاية.
يشكّل القطاع الذي وقع فيه الهجوم أكثر من سدس أراضي فلسطين التاريخية، والغالبية العظمى منها غير مأهولة، وتشمل بشكل أساسي محميات طبيعية كبيرة ومناطق إطلاق نار إسرائيلية، وهي مكان صحراوي يختلف فيه الزمان والمكان تماماً عن أي شيء آخر نعرفه.
من الزاوية الإسرائيلية، لا يتعلق الأمر بـ"قلة الاستعداد" أو "التراخي"، بل بـ"التعامي" الإسرائيلي والاعتقاد الواهم بأن وجود "معاهدة سلام" مع دولة عربية ما يضمن تطويع شعبها بأكمله، في حين أن الحقيقة التي تجتهد "إسرائيل" في التعامي عنها هي أن هناك "حرباً باردة" في المستوى الشعبي، ورفضاً قاطعاً للوجود الإسرائيلي، وهذا يعني بالطبع أن كل عربي وكل جندي أو شرطي مصري ما زال يعدّ "إسرائيل" عدواً. ومن الواضح أن حادثةً كهذه تُعيد إلى "إسرائيل" ذاكرتها الاستعمارية التي تفقدها أحياناً كثيرة بفعل النشوة الناتجة من هدوءٍ متواصلٍ على الحدود هنا أو هناك.
الواقع أنَّ هذا الهجوم يعدّ دليلاً قاطعاً على أنَّ شعوب الدول العربية في مجملها لا تريد التطبيع مع "إسرائيل"، وأن الحكام العرب الذين وقّعوا اتفاقياتٍ معها يمثلون أنفسهم فحسب. يتضح هذا من المنشورات المختلفة في وسائل الإعلام العربية والمزاج السائد في شبكات التواصل الاجتماعي، فالشارع العربي في مجمله يدعم الهجوم الذي نفَّذه الجندي المصري، ويعارض في الغالب اتفاقيات التطبيع.
وبالعودة إلى محمد صلاح، يمكن لأيّ شخص يعرف مصر والمصريين أن يشهد بأنه لاتزال هناك كراهية عميقة لـ"إسرائيل" على الرغم من اتفاقية التطبيع الموقعة منذ سنوات، وهو واقع يتناقض مع مستوى التعاون السياسي والأمني بين الطرفين. وإلى جانب المستوى الاستراتيجي للعلاقة الذي لن يتضرر على الأرجح بفعل هذه العملية، سيتعين على "جيش" الاحتلال الإسرائيلي الإجابة عن أسئلة كثيرة في هذا الحدث "الصعب".
أسئلة كبيرة ما زالت تُطرح في سياق الهجوم حول ما إذا كان الشرطي المصري فعل ذلك من تلقاء نفسه، أم أنه كان يعمل لدى منظمة ما، أو كيفية نجاحه في عبور الجدار الإسرائيلي المُعقّد والضخم الذي أقيم على طول الحدود مع مصر، أو كيف استطاع مباغتة جنود الاحتلال الذين لم يردوا بالنار، ولماذا تُرك جنديان صهيونيان في نوبة عمل طويلة ومرهقة مدتها 12 ساعة، ولماذا طارده جنود الاحتلال بسلاح يحتوي أجهزة أمان "ماك فورك" لمنع إطلاق الرصاص! هي أسئلة ربما تمنح الإجابة عنها "إسرائيل" القدرة على تبرير الفشل والمقايضة مع ذاتها لتعويضها عدم المقدرة على الرد والتنفيس بالقتل والدمار، كما اعتادت أن تفعل في جبهاتٍ أخرى.
نعم، هي أجوبة من نوع "المقايضة مع الذات"، إذ تقوم "إسرائيل" بخداع ذاتها والكذب عليها ومغالطتها حتى ترى الأشياء والمواقف باللون الذي تحب. وفي مقابل ذلك، تمنحها الشعور بالراحة والرضا؛ فعندما تركن "إسرائيل"، بغرورها المعهود، إلى أنها طوّعت شعباً بأكمله، وأن "الحدود معه آمنة"، وتخلق جواً من انعدام التهديد الأمني على طول الحدود المصرية الفلسطينية، فإن هذا يتسبب بأن تتلقى من حيث لا تحتسب.
والأهم، في الذهنية الإسرائيلية المتحصنة والمختبئة خلف عقلية المعزل "الغيتو"، الحريصة، بحسب الوصف القرآني، على "حياة"، لماذا قرر الفدائي المصري البقاء في الجانب الفلسطيني والتصرف بالفعل كشخص قرر الاستشهاد، فبدلاً من أن يُدير ظهره ويعود أدراجه، وقد أتيح له الوقت والأدوات، استمر في دخول الأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث تم العثور عليه والاشتباك معه بعد ساعاتٍ من المطاردة، وَقَتَل عندها جندياً ثالثاً قبل أن يرتقي شهيداً؟
ولعل صورة بندقية الجندي المصري التي تناقلتها وسائل الإعلام العبرية بُعيد ارتقائه شهيداً تُعيننا على فهم مدى الغيظ والغضب الإسرائيلي من هِمّته وجُرأته رغم أدواته البسيطة. صحيحٌ أن بندقيته بَدَت مُهترئة يعلوها الصدأ، لكنها مملؤة بقيم الرجولة والكرامة، فكان فعلها أقوى أثراً ورسالتها أوضح من كل الأسلحة المتطورة والتكنولوجيا المعقدة التي تتسلح بها "إسرائيل" وتختبئ خلفها، فكيف لو كانت البندقية حديثة متطورة!
ربما ظنت "إسرائيل" في لحظة استعلاء أن "معاهدات السلام" التي توقعها مع بعض الأنظمة العربية يمكن أن تُجمّلَ صورتها وتجعلها مقبولةً في عيون العرب، وأن توفر لها الأمن الذي تنشده، ليس من خلال جدران الحماية المادية والمعنوية التي تفرضها على ذاتها فحسب، بل عبر "المعازل" والقيود النفسية أيضاً التي تحاول فرضها على العرب بإيهامهم بأن لا طاقة لهم بها، فهي محصنة آمنة عصية على الكسر! وهذا هو الجدار المهم الذي أحدث فيه محمد صلاح شرخاً كبيراً، فـ"إسرائيل" ليست آمنة رغم جدرانها، والعرب ليسوا عاجزين فاقدي الإرادة.
في خلاصة القول، ينظر الطرفان إلى هذا الحدث بوصفه استثناء لا يشير إلى القاعدة العامة، فـ"إسرائيل" على علم دائم بسياقاته الواسعة ومدى حساسية الحالة المصرية لما يمكن أن يقال في "إسرائيل" عن هذه الحادثة.
تعلم "إسرائيل"، رغم ألم خسارة جنودها الثلاثة، أن مصر قوة ضغط وشريك استراتيجي مهم يجب عدم إهماله أو إهانته. لذلك، عليها أن تبتلع هذه الضربة الموجعة، وأن تترقب لحظة عربية فارقة مؤلمة أخرى تهز حالة الهدوء المصطنع المشحون بالريبة والتوجس على أيٍ من حدود فلسطين التاريخية.
محمد هلسة / موقع "الميادين"