ويجتهد أصحاب الخطاب لانجاحه وتهذيبه من العيوب واللاواقعية، ويدرسون مدي انسجامه مع طبيعة حياة الأمة ومرتكزاتها العقدية ومبادئها، وآمالها وآلامها. وحينها تكون القيادة والجماعة والثورة والحركة والدولة قد وضعت جماهيرها في الخط الصحيح، وحرّكتهم في الاتجاه السليم، ولا يبق بينهم وبين تحقيق الأهداف إلّا الزمن، عبر الثبات على استمرار الحركة والاستقامة علي الخط.
وفي الحديث عن الخطاب الذي عبر به الإمام الخميني (رض) وشعبه الي ضفّة الانتصار الإسلامي الفريد في القرن العشرين، يمكننا أن نكتشف تجربة نادرة ورائدة في إثارة مضامين وشعارات وأفكار تضمنتها عشرات البيانات والكلمات في مختلف المناسبات.
وقبل الخوض في مفردات خطاب الإمام (رض)، نشير إلي حقيقة تُسجّل باعتزاز للامام، وهي قدرته على منح خطابه، الواقعية الميدانية في مرحلة تعبئة الشعب الإيراني خلال حراك الثورة، وتصعيد روح المواجهة مع العدو المدجج بالسلاح والقوة والدعم الخارجي. وعندما انتقل إلي الدولة عبر جسر الثورة وشعاراتها، راهن كثير من المراقبين في العالم علي فشل الإمام في استحداث خطاب جديد للدولة، والقدرة على تجاوز خطاب الثورة، الذي يختلف في كثير من معالمه، التي تميز بين أماني الثورة وواقعية الدولة. إلّا أن الإمام اثبت قدرة عظيمة علي استحداث الخطاب المنسجم مع خط الدولة ذات المؤسسات الثورية، حتى أنه حافظ علي نهجه الثوري من خلال مفردات الدولة، ولم يجهد الدولة باستصحاب ذات الشعارات التي كانت تحتاجها الثورة وهي في ساحة المواجهة؛ بالنظر الى حاجة الدولة إلي خطاب سياسي مبدئي وواقعي، قادر علي ضبط الانتقال الانسيابي من مرحلة الثورة الى مرحلة الدولة، مع المحافظة على الثوابت العقدية والقيم السامية والأهداف الكبري.
لقد عُرف الإمام الخميني (رض) بجديته المبكرة، وقدرته على استقطاب الأمة والتأثير في وعيها، واهتمامه بفئة الشباب والنساء، ودفعهم لوعي محيطهم ومشاكل مجتمعهم، واستطاع أن يكشف خصائص شعبه في عطاءاته ونجاحاته، وفي نهوضه ونكوصه، كما اكتشف خصائص دولة الشاه ومرتكزاتها ومثالبها، ونقاط الضعف والقوة فيها؛ فجاء خطابه المبكر وحركته وفق نسق واحد، يؤكد صحة تشخيصه، ووعيه بما حوله من أحداث وملابسات؛ فكانت حركته مدروسة بعناية، وتتصاعد بتدرج وتنسيق وانسيابية. وحين حدثت انتفاضة العام 1963، وإقدام نظام الشاه على نفي الإمام الى خارج إيران، ليستقر في النجف الأشرف؛ فإنه استانف حراكه، ليبدأ من حيث انتهى، ولم يبدأ من الصفر، بل أضاف عناصر جديدة للحراك منحتها له الانتفاضة. وهنا برزت خاصية أخرى لخطاب الإمام، تتمثل في عدم انه انطوائه علي ثغرة قاتلة أو تخلف عن الضرورة أو تعجيل غير واقعي؛ فكان بحق يمثل عنفوان الثورة وتماسك مفاصلها في خط تصاعدي دقيق، أغلق الباب أمام أفكار الضعف والتخاذل والانهزامية، وكذلك أفكار التطرف والتهور.
خصائص خطاب الإمام الخميني
من منطلق المدخل المذكور؛ يمكننا تسجيل أهم خصائص الخطاب السياسي الثوري للإمام، من خلال قراءة سريعة لنماذج من بياناته وكلماته وتوجيهاته:
1- التعبوية:
خطاب الإمام الخميني خطاب تعبوي، يستبطن إشعار الأمة بأنها أمام معركة، فصولها ممتدة ومتصلة الى عمق التاريخ الإسلامي ومسيرة مدرسة أهل البيت، ويحشِّدها لخوض المعركة وفق المعايير التي خاض السلف الصالح ثوراتهم وانتفاضاتهم على أساسها، لتشعر الأمة أنها الامتداد الحقيقي والواقعي للخط المتصل بالحق المطلق، ومن ذلك ربط الأمة بنهضة الإمام الحسين (ع)، بوصفها خير مناسبة للتعبئة تحت شعار ((كل أرض كربلاء وكل يوم عاشوراء))(1). وظل خطابه التعبوي بالسهل الممتنع، لأنه سهل في مفرداته، ولا يصعب علي العامل والفلاح والشاب فهمه والتفاعل معه، كما يتفاعل معه المثقف بنفس الدرجة، وهو خطاب ممتنع أيضاً، لأنه ينم عن عمق وحنكة وخبرة وكفاءة، ولايمكن مجاراته فيها بسهولة، إلّا ممن امتلك القدرات الفكرية والعقلية.
2- الجماهيرية:
وهو خطاب جماهيري في نصوصه ومضامينه، وليس خطاباً نخبوياً خاصاً، أي أنه يحاكي قضايا الشعب بمختلف طبقاته، ويناقش شؤونه واحتياجاته ومشاكله، حتي بات كل ايراني، بل وكل مسلم، يشعر وكأنّ خطاب الإمام يعنيه، ويحثه على العمل، ويجنِّده للجهاد في خط الإسلام، ونموذج على ذلك نداءه الجماهيري العام: ((أيها المسلمون المؤمنون بحقيقة الإسلام؛ انهضوا ووحدوا صفوفكم تحت راية التوحيد، وفي ظل تعاليم الإسلام، واقطعوا أيدي القوي الكبري الخائنة عن بلدانكم وثرواتكم الوفيرة، وأعيدوا مجد الإسلام، وتجنّبوا الاختلافات والأهواء النفسية؛ فانكم تملكون كل شيء(2). ويستحق هذا النص لوحده دراسة واسعة و
مركزة، بالنظر لأهميته، ولكن نكتفي بالقول أنه شديد الوضوح في مخاطبته كل جماهير المسلمين، المثقفين منهم وغير المثقفون، وتناوله القضايا المشتركة التي تدخل في صلب اهتماماتهم، وتمثل حاجاتهم الماسة.
3- الصدق والصراحة:
ويتميز بأنه خطاب صادق وصريح، خلافاً للخطاب المراوغ للحكام في تعاملهم مع شعوبهم ومع الدول الأُخر؛ فقد كان الإمام (رض) صادقاً وصريحاً وواضحاً وشجاعاً، لاتأخذه في الله لومة لائم، وكان مرآةً حقيقةً تعكس الواقع؛ ما يدفع المسؤولين والناس الى أن يهرعوا اليه عندما يختلفوا أو تلتبس عليهم الأمور، وكانت صراحته سيفاً قاطعاً، لا يجامل أحداً ولا يتعامل بعواطف مع أحد؛ فهو لسان ناطق بالحقيقة لشعبه، يقولها دون مراوغة ومواربة وزيف، ويتقبّلها منه الناس، ويندفعون معه نحو تشخيص العلاج، وتصحيح المسار، لأنهم تعوّدا صدقه وصراحته وأمانته، ولم يشعروا يوماً بوجود شيء مخفي مخيف، ولا ضبابية في الموقف تبعث تلقائياً علي التلكؤ وعدم التفاعل معه.
4- الشجاعة:
وهو خطاب شجاع؛ فقد عبّر عنها بنفسه (رض) بقوله: ((لم يدخل الخوف في قلبي قط))(3) . وقد لفتت شجاعته انتباه كل من رافقه في طائرة العودة الي ايران، حين كان نظام الشاه يهدد بقصف الطائرة وإسقاطها، وما رافقها من احتمالات قد تودي بحياته الشريفة؛ فلم يلمسوا زيادة في ضربات القلب، وكان نومه هادئاً مطمئناً علي متن طائرة الموت المرتقب. وفي موازاة ذلك؛ لم ترهبه قوة النظام البهلوي، وكل من يقف خلفه ويدعمه، ولم يدع مناسبة إلّا أثار الغبار بوجهه، وفتح عيون الشعب الايراني علي حقيقة النظام الفاسدة، ولم يثنه عن الثبات في المواجهة؛ تهديدات النفي والسجن والاعدام، وبقدر ما انطوى جنبيه على نفس عطوفة؛ فإنه كان صلباً شجاعاً في حماية الثورة واستمرارها، حتي النجاح والنصر، أو الشهادة. ولما أخبره بعض قادة الثورة في الداخل، وكان في حينها في فرنسا، بضرورة إيقاف التظاهرات بعد إعلان نظام الشاه حظر التجوال المشدد والتهديد بمجازر ضد المتظاهرين، وما رافق ذلك من تراجع همة بعض المراجع والعلماء، واكتفوا بشعارات الاصلاحات الجزئية والمطالب المحدودة، ليخرجوا أنفسهم من المأزق؛ فإن الإمام الخميني (رض) ظل مصراً علي رفض كل المساومات والاصلاحات، ومصمماً علي أن الهدف النهائي هو إسقاط النظام الشاهنشاهي، وإقامة حكم الله تحت عنوان الجمهورية الإسلامية، بدعم الشعب ورضاه.
5- الشمولية وسعة الأفق:
لم يختنق خطاب الإمام (رض) في حدود القضية الإيرانية أو الشأن الإيراني، ولم تنسه كل ما كان يواجهه من تحديات، أن يشمل خطابه قضايا كل المسلمين، كما لم يكن خطابه لشريحة محدودة ووفق مستوي خطابي محدد، لأنه كان يؤمن بوحدة ساحات المسلمين ووحدة الهموم والمشاكل، وتلك خاصية مهمة تتناسب مع رجل صاحب آفاق واسعة، ومسؤوليات بحجم المآسي التي يمر بها المسلمون في مختلف بقاع العالم، وقد أبقت هذه الشمولية الباب مشرعاً أمامه (رض) في تعميق أواصر العلاقة مع الشعوب الإسلامية، التي فتحت قلبها لكلامه، عندما رأت فيه الاخلاص والمواساة الحقيقية والحرقة والشعور بالمسؤولية تجاه قضاياهم. ومن نماذج هذه الشمولية قوله: ((إن مشكلة المسلمين ليست مشكلة القدس فحسب؛ فهي واحدة من مشاكل المسلمين. أليست أفغانستان من مشاكل المسلمين؟! أليست تركيا من مشاكل المسلمين؟!. ينبغي أن نفكر بدقة في جذور هذه المشاكل التي تعم المسلمين ونجد لها الحلول اللازمة))(4). وفي بيان آخر قال (رض): ((واعلموا أننا لسنا في حرب مع العراق، بل أن شعب العراق يساند ثورتنا الإسلامية، نحن في صراع مع أميركا، واليوم فإنّ يد أمريكا تجسّدت في حكومة العراق))(5).
6- تحطيم حاجز الخوف:
يخلق حاجز الخوف عوارض سلبية كثيرة، أهمها الصمت والتردد والانهزام والشلل في التفكير والحركة؛ فحين كان حاجز الخوف يسيطر علي الشعب، وكذلك على النخب، ومنها الحوزة العلمية؛ فإن الإمام (رض) بذل كل ما في وسعه لكسر هذا الحاجز الذي صنعه القمع والإرهاب، لأنه كان يدرك أن أمثال هذه الحاجز وأعراضه، مهما كانت صلبة وسميكة؛ فإن الواجب هو العمل علي تحطيمها وكسرها، لأنها تعيق الحركة وتقتلها، ولا يمكن أن تنهض بمهامها والشعب صامت، ونخبه خائفة أو مهزومة أو مشلولة؛ فكانت كلماته وبياناته ومواقفه، تدفع الشعب ونخبه الى الجرأة على التفكير وعلى الحركة وعلى تحدي السلطة.
ولم ينفد صبره يوماً وهو يكرر النداءات والبيانات، والتي كان بعضها يحتوي على كلمات التقريع والاستفزاز؛ فإن الصبر والإصرار والتكرار الذي عرف به خطاب الإمام، تمكن من تفكيك عقد الخوف، فضلاً عن تحطيم اعراضه، كالصمت والتردد والانهزام والشلل. يقول (رض) مخاطباً شعبه وشعوب العالم الإسلامي: ((ما أريد التأكيد عليه، هو أن تُخرجوا من رؤوسكم ما يقال من أنه لا يمكن مواجهة الدول الكبري، قرروا علي ذلك وستقدرون، لأن الله يدعمكم ويحميكم. إن الهمسات التي تشاع من قبل عملاء الاستعمار من أنه لا يمكنكم الحياة دون اللجوء
الي إحدي الدول العظمي؛ كلها خطأ مئة بالمئة، وغير صحيحة. قفوا علي أرجلكم باستحكام وقوة، وكونوا مع الله، واسعوا قبل كل شيء الي الرقي في الانسانية، عندها يمدنا الله بعونه))(6).
7- الأصالة والتجديد:
جمع خطاب الإمام الخميني بين الأصالة في الثوابت والمبادئ والمنهج، والتجديد في الأسلوب والوسائل، بما ينسجم مع طبيعة المرحلة، وهي خصوصية يصعب الجمع بين طرفيها، ولطالما سقط القادة السياسيون في أحد طرفي المعادلة؛ فكان بعضهم صورة للماضي في الشكل والمضمون العملي، وكان آخرون لصيقين بمظاهر العصر، مع كامل الانقطاع عن الماضي، بما يمثله من ثوابت وزخم روحي ودافع معنوي لقوة الحراك العصري واستمراره؛ فلا يكون المنهج مختلفاً متحجراً جامداً علي عطاءات الماضي وموروثاته التي يتجاوز الواقع بعض متغيراتها، ولا منبهراً بمظاهر العصر فيقطع صلته بعمقه التراثي، ويلهث خلف الأفكار الوافدة والنظريات التي لا تنسجم مع ثوابت الإسلام، بحجة اللحاق بالعصر والتقدم.
لقد كان الإمام الخميني مرجعاً علي النمط التقليدي للمرجعية، في دراسته وتدريسه واجتهاده وآرائه الكلامية والفقهية، وكذلك في آلية طرح مرجعيته، وكان متمسكاً بنهج السلف الصالح في هذا الإطار، وكان يؤكد علي الفقه والعلوم التي ورثتها الحوزة العلمية عن فحول مذهب أهل البيت (ع)، كالجواهري والأنصاري، وقبلهم المفيد والطوسي والحلي(7)، ولكن لم تمنعه هذه النمطية الحوزوية من التطلع نحو التجديد في موقع المرجعية وأدوارها ومهامها، وإحياء الجوانب التي تم تعطيلها بسبب الظروف والمناهج التي تنطوي على بعض الجمود. ولعل أبرز ما ضخّه الإمام الخميمي من دماء جديدة في عروق المرجعية والحوزة، أنه أدخلها في خضم الصراع النهضوي والسياسي، بعد أن كانت الرؤية السائدة تعدّ السياسة منافية للقيم الإسلامية والأخلاق، بل دفع الإمام الخميني بأغلب الوسط الحوزوي نحو دعم إقامة الحكومة الإسلامية، التي اعتبرها من أوجب الواجبات، لأن الواجبات الدينية الأخري تصان بها.
كما ذهب الى أبعد من ذلك؛ عندما دعم العمل التنظيمي الحركي الإسلامي كأٌسلوب من أساليب التعبئة والاعداد لكوادر المجتمع الإسلامي، بالشكل الذي يمكّن التنظيم من كسب الشارع وفرض إرادته في ساحة المواجهة مع التيارات المنحرفة. وكان نموذج ذلك؛ دعمه تأسيس حزب الجمهورية الإسلامية وعمله؛ فالحزب كان صيغة في الإسم والمضمون، يعتبرها أغلب الوسط الحوزوي منافية للإسلام، لأنها صيغة غربية مستوردة. ولم يكن خافياً علي أحد رعاية الإمام (رض) للحزب ودفاعه عنه وعن قياداته؛ فقد كان مؤسسوه وقادته من أبرز تلاميذ الإمام، كأمينه العام الأول السيد الشهيد محمد بهشتي، ثم أمينه العام الثاني السيد علي الخامنئي، إضافة الى الشيخ هاشمي رفسنجاني والشيخ الشهيد محمد جواد باهنر. وكان الشهيد بهشتي يكرر مقولته الجريئة: ((الحزب معبدي))(8)، وهي مقولة لم يكن يستوعبها كثير من التقليديين، والتي يقصد فيها أن الحزب آلية ووسيلة من الوسائل العبادية التي يتقرب بها الحزبي الإسلامي إلي الله، ومن خلالها يحقق مفهوم الطاعة والعبادة وتحكيم شريعة الإسلام.
كما أكد الإمام (رض) دعمه للصيغة الحزبية الإسلامية العصرية عندما استقبل قيادة حزب الدعوة الإسلامية، مخاطباً إيّاهم بضرورة بذل أقصي الجهود، وأن الوقت مناسب لتحركهم، لأن الأمة أصبحت تنفتح علي العمل السياسي والحزبي(9). هذا الانفتاح علي العصر في الخطاب، منح برنامج الإمام قوةً في الحركة وقدرةً في الاستيعاب ومرونة في التعامل مع التحديات، وتطويع للعقبات، ضمن سياسة الانفتاح عليها، والتدرج في معالجتها، واعتماد المناهج العلمية في ملاحقة المفردات التي يمكن أن تشكِّل نمطاً من التحدي لخط الثورة والدولة.
ورغم صورة الصلابة والجدية التي كان يرعب بها خصومه، فإن الإمام الخميني كان يختزن قدرة قوية في التعامل المرن مع التحديات، وكأنّه يتمثل القول المأثور: ((لا تكن غضّاً فتعصر ولا يابساً فتكسر))، وهي المعادلة السياسية التي عمل بها طول فترة حياته، ثم تركها إرثاً قيمياً ومنهجاً قويماً لخليفته والمتصدين لشؤون الدولة من بعده؛ فلم يكن غضاً ليناً في مواقفه السياسية، حتي لا يطمع عدو في النيل من إرادته، كما لم يكن يابساً صلباً فتكسره الأحداث التي ربما لا يستطيع مواجهتها في مقطع زمني معين، وكلا الموقفين عنده يدخلان في حسابات تشخيص المصلحة العليا للأمة واستحقاقاتها؛ فإن كانت المصلحة تتسع للمرونة؛ فهو الموقف الشرعي عنده، وإن كانت تفرض الشدة والصلابة؛ فهو الموقف الذي لا يتراجع عنه. وفي هذا الإطار يرد شاهدان علي المرونة والشدة:
الأول: موقف المرونة، والذي عبّر عنه في موافقته علي وقف الحرب المفروضة علي الجمهورية الإسلامية من قبل النظام البعثي، وما كانت تفرضه هذه الموافقة من ضغط علي الأعصاب والنفس، لم يكن يتحملها كثير من القادة في حروبهم، لأنها تعني في قواميسهم الانهزام؛ فيعرِّضون شعوبهم وأوطانهم الي أشد البلاء
والمحن والدمار، ولا يملكون الجرأة والشجاعة علي تعريض أنفسهم لتحمل المكروه، وحينها قال الإمام (رض) كلمته العظيمة ((تجرعت السم))(10)، وكان بإمكانه أن لا يتجرعه، ويدع ايران تواجه مؤامرات الاستكبار وأذنابه، ويدع الشعب الإيراني يغرق في بحر من الدمار والخراب.
الثاني: موقف الحزم، والذي تمثّل في فتواه الشهيرة بحق المرتد سلمان رشدي، التي أصرّ عليها رغم كل الضغوط الخارجية الشديدة، وثبت عليها، رغم كل التحديات، حتى وضع المرتد والمؤامرة التي تقف خلفه في حرج شديد، وأحدث تعبئة إسلامية عامة من خلال تجييش المشاعر الإسلامية في الرد علي الإهانة التي تعرضت لها مقدسات المسلمين، وفي المقدمة رسول الله (ص). وبالفعل؛ صدرت مواقف وفتاوي من فقهاء آخرين بحق مرتدين أيضاً، بعد فتوي الإمام التي ضجّت في العالم. وهنا لا يمكننا القول أن هذه الفتاوى أوقفت الردة والاعتداء علي المقدسات الإسلامية، بقدر ما أعادت الثقة الى الأمة بنفسها، وحفّزتها لاتخاذ المواقف المناسبة من أي اعتداء مثيل، حتي لا يظل المسلمون مخدّرين لا يمتلكون القدرة علي رد الفعل الذي يستهدف مقدساتهم.
وفي جوانب أخري؛ ظل الإمام (رض) متمسكاً بكلام علي أمير المؤمنين (ع): ((والله ما معاوية بأدهي مني، ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهي الناس))(11)؛ فالغدر ليس متعذراً علي من يريد الغدر، ومن يريد التنكر للقيم والأخلاق في الميادين المختلفة، إلّا أنّ مدرسة آل البيت (ع) لا تمارس أي لون من ألوان الغدر، كما يمارسه نمط السياسيين المراوغين، ليس لأنهم يفتقدون المعرفة بذلك، إنّما لأنهم مدرسة العرفان الإلهي والأخلاق السامية التي يتميز بها أهل البيت (ع) ومن اختط خطهم. وهكذا كان بإمكان الإمام الخميني (رض) أن يتنازل قليلاً بمقدار ما يرضي الاستكبار الغربي، ليأخذ الكثير، وكان بإمكانه أن يسكت عن القليل؛ فيتجنب الكثير من التضحيات، لكنه كان ينطلق في خطاباته من شعور عظيم بالمسؤولية تجاه تربية الأمة على المواقف الصلبة، في الموضوعات التي تستدعي الصلابة والحزم والقوة، من أجل تغيير كثير من معالم حياتها التي ورثتها عن العهود السابقة، التي اختلطت فيها عامل الغدر بعامل الصفاء، والصحيح بالسقيم.
ومن هنا؛ فإن من يتصدي لمهمة التغيير وإصلاح النفوس، يكون في أقصي درجات الحاجة إلي الدقة والتثبت من مفردات كلامه وسلوكه، لأنه وضع نفسه في موضع القدوة والمثال الذي تأخذ عنه الأمة مواقفها وتتعلم منه، وهكذا لم يرد الإمام (رض) في خطابه أن يجعل الناس في حيرة بين ما يجب أخذه أو ما يجب تركه، وبين ما هو مقبول وما هو مرفوض، لأن عامة الناس لا تمتلك القدرة علي الفرز، وعلى معرفة صحة الموقف من عدمه.
8- الوعي الستراتيجي بالصراع الحضاري:
لعل من أبرز الصفات التي تزيِّن كفاءة القائد، هو وعيه الدقيق بأبعاد الصراع الحضاري الشامل ومفرداته، والتي تشكِّل تحديات في طريق الوصول الي الهدف، وتحت هذا العنوان تدخل جملة منها، أهمها: تشخيص خارطة الأعداء والأصدقاء والمحايدين، وأهداف ومصالح كل منهم، وتشخيص المصالح والمفاسد في العلاقة معهم، وطبيعة العدو وأهدافه وأساليبه وآلياته في إخضاع إرادة الطرف الآخر، ونقاط قوته وضعفه، والمنحدرات التي قد يصلها الصراع معه، من خلال الانتقال لمفردة صراعية هنا وخلافية هناك. وينبغي أن ينعكس هذا الوعي على خطابه بوضوح، لكي تستلهم منه الأمة طريقها ونهجها. أما الجهل بهذه الخارطة وعناصرها وجزئياتها؛ فإنه يجعل القائد يسير علي غير هدي، ويتحرك دون وعي لما يجب أن يعمله أو يتحاشاه، وما يجب عمله في الحاضر والمستقبل.
وهذا الوعي العميق والشامل بخارطة التحالفات والصراعات، الذي تميّز به الإمام الخميني (رض) خطابه، كان واضحاً في مرحلة مبكرة من عمره، وتعزز بمرور الأيام وتراكم الأحداث والوقائع. وانطلاقاً منه، كان الإمام يدعو بإصرار وبشكل مكرر الى وجوب حماية الإسلام من الإستكبار، وحماية المسلمين من نهبه وجشعه، وقد امتلك درجة متقدمة من الوعي السياسي والانفتاح علي مفردات الصراع في عمقها الاستراتيجي، ولم يتوقف عند ظواهر الصراع القشرية، إنما أعاد المعركة الي مناصبها وجذورها، مستخدماً جملة شعارات أحيا بها أصول المعركة التي عبّر عنها القرآن الكريم بالصراع بين المستكبرين والمستضعفين. كما نجح في تعبئة كل الموروث الإسلامي، علي مستوي المفهوم والتاريخ والممارسة، لصالح عملية المواجهة؛ وعياً منه بخطورة الهجمة الاستكبارية وحجم المعركة معه وأبعادها، وهنا لم يقف الإمام عند حدود مفردات القوة في الموروث التاريخي الشرعي في الاندفاع، بقوةٍ تغفل مخاطره، إنما نجح في تقدير مفردات وأساليب كل مرحلة، وفق الحاجات والمتطلبات، مُدركاً أنّ أي خطأ في التقدير، سيتسبب انتكاسة للمسيرة، وربما يفتح معركة جديدة لا يمتلك القائد مقومات خوضها والانتصار فيها.
ويقف المراقبون أمام ظاهرة وعي الإمام (رض) بمفردات الصراع الحضاري بأبعاده المختلفة، إجلالاً لرجل ن
ادر، لم يكن يسافر ويتجول في العالم لاكتساب الخبرة، بقدر ما كان يمارس حياته العامة كأي فقيه ومرجع ديني يعطي كامل وقته للدراسة والتبليغ والكتابة. وهنا يمكن استخلاص جملة المقومات التي خلقت هذا الوعي في عقل الإمام الخميني وخطابه، أهمها:
أ- الاخلاص العميق لله (تعالى)، والربانية في التفكير، ما جعله ينظر بنور الله(12).
ب- التواضع ونكران الذات، وعدم التفكير بأية مصلحة شخصية.
ت- الغيرة علي الإسلام والمسلمين، وتحمّل مسؤوليتهم، والعمل الدؤوب في سبيل نصرتهم. هذا الاهتمام والغيرة والمسؤولية هي التي فتحت آفاقه، وأحدثت عنده ظاهرة المتابعة الدقيقة المنطلقة من أصالة التفكير، والاستلهام الحر الواع للتاريخ وسننه، والصراع وآلياته.
ومن خلال متابعة مسيرة الإمام (رض) وكلماته وتوجيهاته؛ نري أنه كان يُجري باستمرار مراجعات تاريخية لعوامل نشوء الحضارات والمدنيات واختفائها؛ فكان يأخذ منها دروساً وعبر، ويوظّفها بقدر ما تتاح له الأيام المثقلة بالهموم والتحديات، كما كان يدرك أنّ كل المشاكل والتراجعات والمآسي التي مرّ بها العالم، تعود الى أصول وعوامل حضارية، وأن معركة الحاضر لن تختلف عن معركة الماضي. من هنا؛ انطبعت كثير من صفات العملية الحضارية في شخصية الإمام، ومنها نشر الوعي والافصاح عن الحقائق، وتربية الأمة، لأنها مادة الصراع، والحصن الذي يردع الهجوم الحضاري المعادي، ومنها تقبّله للنقد ومطالبته المسؤولين في الجمهورية الإسلامية تقبّل النقد، وتفعيله وفق الضوابط الأخلاقية والشرعية؛ حيث شهدت ايران حربة النقد والتعبير من خلال الصحافة والمنابر والكتاب وغيرها، كما اعتمد مبدأ صناعة القادة الذين يتّصفون بصفات حضارية، لأنهم يسهمون حتماً وبشكل فاعل، في إنجاح العملية الحضارية في ميادينهم المختلفة؛ فكان يلتف حوله جمع من خيرة القادة، الذين استشعرت دول الاستكبار خطورتهم المستقبلية؛ فحرّكت جماعاتها لتصفيتهم، في عمليات اغتيال وتفجير تدل علي دقة تشخيصها لخطورة بقاء هؤلاء في ساحة المعركة.
وأهم ما في هذا الأمر؛ أن الإمام (رض) أشاد قواعد المواجهة الحضارية علي أسس العقيدة والمبادئ الإسلامية، لتكريس عملية ربطها بالغايات الإلهية المتعالية بالله (تعالى)، في ضوء ما أشارت اليه الآية الكريمة: ((فمن اتّبع هداي فلا يضلّ ولا يشقي))(13).
خطاب الإمام الخميني درس للأمة وقياداتها:
يبقي خطاب الإمام (رض) الذي أنتج دولة؛ مجالاً خصباً للتأمل والتدقيق والدرس، وهو بحق نموذج للخطاب الناجح، حتى وفق المعايير الدنيوية، والذي يوضع بمصاف خطاب كبار القادة التاريخيين الذين صنعوا التحولات الكبرى في التاريخ، كما ينتفع به القادة في الحاضر والمستقبل، ولكن لا يمكن النجاح في ذلك؛ إلّا إذا كان القائد يتمتع بثلاث خصال:
1- الصدق مع النفس والشعب، بعيداً عن الخداع والتضليل والوصولية التي ينتهي عندها كل شيء لمجرد اعتلاء العرش.
2- الثقة بالله ونصره، والتوكل عليه.
3- التعامل مع الأحداث بروح المسؤولية الشرعية، بعيداً عن حسابات الحكم والسلطة.
لقد كان الإمام الخميني يفكر ويخطط وينفذ، وفي الوقت نفسه يتوكّل على الله وينظر بنوره، ويترك لتوفيق الله وإرادته تحقيق الأهداف والنصر، وهو ما كان يعبر عنه باستمرار في خطابه؛ فحين أشكل عليه بعض الصحفيين بقوله: ((أنت تريد إقامة دولة، وليس لديك دولة تدعمك، ولا حزب ولا قوة عسكرية))؛ فقال كلمته التي هي درس للعالم: ((أنا مكلّف بالجهاد، كما أنا مكلّف بالصلاة، أمّا النصر فأمره إلي الله)).
نوري المالكي/الأمين العام لحزب الدعوة الإسلامية