ولادته:
في يوم العاشر من جمادى الثاني سنة 1320هـ.ق الموافق للثلاثين من شهريور عام 1281هـ.ش (24 أيلول 1902م) رأى النور في هذا العالم رجل كبير اسمه روح الله الموسوي الخميني، ولد لعائلة من أهل العلم والهجرة والجهاد من ذرية السيدة الزهراء الطاهرة (سلام الله عليها)، وذلك في مدينة خمين التابعة للمحافظة المركزية في إيران.
طفولته:
لم يكن قد مضى على ولادة روح الله أكثر من خمسة شهور، حينما انبرى الطواغيت والإقطاعيون المدعومون من قبل الحكومة آنذاك فردّوا بالرصاص على نداء الحق والعدالة الذي أطلقه والده حين تصدى لتعسفهم وجورهم، فنال وسام الشهادة على أيديهم وهو في طريقه من خمين إلى أراك. وهكذا خبر الإمام الخميني منذ نعومة أظفاره آلام اليتم. قضى الإمام الخميني أوان طفولته وصباه في ظل رعاية والدته المؤمنة (السيدة هاجر) وكذلك في كنف عمته الكريمة (صاحبة خانم)، لكنه عاد ليُحرم حنان هاتين المرأتين العزيزتين في سن مبكرة حينما كان في الخامسة عشرة.
والده:
كان والده الجليل المرحوم آية الله السيد مصطفى الموسوي من معاصري المرحوم آية الله العظمى الميرزا الشيرازي (رض) وقد أمضى عدة سنين في النجف الأشرف للاستزادة من العلوم والمعارف الإسلامية نال إثرها درجة الاجتهاد وقفل راجعاً إلى إيران فأقام في خمين ليكون هناك ملاذاً للناس ومرشداً وهادياً لهم في شؤونهم الدينية.
والدته:
والدته المؤمنة (السيدة هاجر) وهي بدورها من بيت علم وتقوى وإحدى حفيدات المرحوم آية الله الخانساري.
مرحلة الدراسة والتدريس:
درس سماحة الإمام في مدينة خمين حتى سن التاسعة عشرة مقدمات العلوم بما فيها اللغة العربية والمنطق والأصول والفقه، لدى أساتذة معروفين. وفي عام1339 للهجرة 1921م التحق بالحوزة العلمية في مدينة أراك. وبعد أن مكث فيها عاماً، هاجر إلى مدينة قم لمواصلة دراسته على يد فقهاء ومجتهدي عصره، اهتم بدراسة علم الرياضيات والهيئة والفلسفة. وفي الوقت الذي اهتم فيه بكسب العلوم، حرص على المشاركة في دروس الأخلاق والعرفان النظري والعملي في أعلى مستوياته لدى المرحوم آية الله الميرزا علي شاه آبادي على مدى ست سنوات.
وفي عام 1347 هـ – 1929م بدأ الإمام الخميني الراحل (قدس سره) بمزاولة التدريس، أي منذ أن بلغ سن السابعة والعشرين من عمره، درّس سماحته الفلسفة الإسلامية والعرفان النظري وأصول الفقه والأخلاق الإسلامية.
الأسرة والأبناء:
اقترن سماحة الإمام الخميني (قدس سره) عام 1929م بكريمة المرحوم آية الله الحاج ميرزا محمد الثقفي الطهراني. وكانت ثمرة هذا الاقتران ثمانية أبناء هم: الشهيد آية الله السيد مصطفى الخميني، وابن اسمه علي توفي في سن الرابعة، والسيّدة صديقة مصطفوي عقيلة المرحوم آية الله اشراقي، والسيّدة فريدة مصطفوي عقيلة السيد الأعرابي، والسيدة فهيمة -زهراء- مصطفوي عقيلة الدكتور السيد البروجردي، وبنت اسمها سعيدة توفيت ولها من العمر سبعة شهور، والمرحوم حجة الإسلام والمسلمين السيد أحمد الخميني، وبنت اسمها لطيفة توفيت وهي طفلة.
مرحلة النضال والثورة:
ابتدأ الإمام الخميني (قدس سره) جهاده في عنفوان شبابه، وواصله طوال فترة الدراسة بأساليب مختلفة بما فيهما مقارعته للمفاسد الاجتماعية والانحرافات الفكرية والأخلاقية.
ففي عام 1943م، ومن خلال تأليفه ونشره لكتاب “كشف الأسرار”، قام سماحته بفضح جرائم فترة العشرين عاماً من حكم رضا شاه – والد الشاه المخلوع- وتولى الرد على شبهات المنحرفين دفاعاً عن الإسلام وعلماء الدين، كما أثار في كتابه هذا فكرة الحكومة الإسلامية وضرورة النهوض لإقامتها.
وانطلق الإمام الخميني (قدس سره) في نضاله العلني ضد الشاه عام 1962م، ذلك حينما وقف بقوّة ضد لائحة “مجالس الأقاليم والمدن” والتي كان محورها محاربة الإسلام. فالمصادقة على هذه اللائحة من قِبَل الحكومة آنذاك كانت تعني حذف الإسلام كشرط في المرشّحين والناخبين؛ وكذلك القبول باستبدال اليمين الدستورية بالكتاب السماوي بدلاً من “القرآن المجيد”.
بيد أن سماحته هبّ لمعارضة هذه اللائحة، ودعا مراجع الحوزات العلمية وأبناء الشعب للانتفاض والثورة. وعلى أثر برقيات التهديد التي بعث بها الإمام إلى رئيس الوزراء وقتئذٍ، وخطابات سماحته التي فضحت الحكومة وبياناته القاصمة، وتأييد المراجع لمواقفه. انطلقت المسيرات الشعبية الحاشدة في كل من مدينة قم وطهران وسائر المدن الأخرى؛ مما اضطر نظام الشاه إلى إلغاء اللائحة والتراجع عن مواقفه.
ودفعت مواصلة النضال الشاهَ لارتكاب إحدى حماقاته التي تمثّلت في مهاجمة المدرسة الفيضية بمدينة قم في الحادي والعشرين من آذار عام 1963م، وما هي إلاّ فترة وجيزة حتى انتشر خطاب سماحة الإمام وبياناته حول هذه الفاجعة في مختلف أنحاء إيران. وفي عصر العاشر من محرم الحرام عام 1383 للهجرة – الثالث من حزيران 1963م – فضح الإمام الخميني (قدس سره) عبر خطاب حماسي غاضب، العلاقات السرية القائمة بين الشاه وإسرائيل ومصالحهما المشتركة.
وفي الساعة الثالثة من بعد منتصف ليل اليوم التالي حاصرت القوات الحكومية الخاصة بيت الإمام (قدس سره)، وتم اعتقاله وإرساله مكبلاً إلى طهران.
انتشر خبر الاعتقال بسرعة خاطفة في مختلف أنحاء إيران. وبمجرد أن سمعت الجماهير نبأ اعتقال الإمام (قدس سره)، نزلت إلى الشوارع من الساعات الأولى لفجر الخامس من حزيران 1963، وراحت تعبّر عن استنكارها لعمل الحكومة في تظاهرات حاشدة، أعظمها تظاهرة في قم المقدسة التي شهدت أكبر هذه الاستنكارات والتي هاجمتها قوات النظام بالأسلحة الثقيلة، وكان نتيجتها سقوط العديد من المتظاهرين مضرّجين بدمائهم.
ومع إعلان نظام الشاه الأحكام العرفية في طهران، اشتد قمع تظاهرات أبناء الشعب في تلك الأيام، حيث قتلت وجرحت قوات الحكومة العسكرية الآلاف من أبناء الشعب الأبرياء. وكانت مذبحة الخامس من حزيران 1963م على درجة عالية من القسوة الوحشية. وأخذت تتناقل أخبارها وسائل الإعلام العالمية والمحلية.
وأخيراً ونتيجة لضغط الرأي العام واعتراضات العلماء وأبناء الشعب في داخل البلاد وخارجها، اضطر النظام إلى إطلاق سراح الإمام بعد عشرة أشهر تقريباً من المحاصرة والاعتقال.
واصل الإمام جهاده عبر خطاباته الفاضحة للنظام وبياناته المثيرة للوعي. وفي هذه الأثناء تأتي مصادقة الحكومة على لائحة “الحصانة القضائية” التي تنص على منح المستشارين العسكريين والسياسيين الأميركيين الحصانة القضائية، لتثير غضب قائد الثورة وسخطه. فما أن يطلع الإمام الخميني على هذه الخيانة حتى يبدأ تحركاته الواسعة ويقوم بإرسال مبعوثيه إلى مختلف أنحاء إيران، ويعلن لأبناء الشعب عن عزمه بإلقاء خطاب في العشرين من جمادى الآخرة عام 1383هـ. ألقى سماحة الإمام خطابه الشهير في اليوم المعلن دون أن يعبأ بتهديد النظام ووعيده. فانتقد لائحة الحصانة القضائية وحمل بشدّة على الرئيس الأميركي وقتئذ.
أما نظام الشاه فقد رأى أنّ الحل الأمثل يكمن في نفي الإمام إلى خارج إيران. ومرة أخرى حاصرت المئات من القوات الخاصة والمظليين بيت الإمام وذلك في سحر يوم الثالث من تشرين الثاني عام 1964م.
وبعد اعتقال سماحته اقتيد مباشرة إلى مطار مهر آباد بطهران. ومن هناك وطبقاً للاتفاق المسبق، تم نفيه أولاً إلى مدينة أنقرة (تركيا) ومن ثم نُقل إلى مدينة بورساي التركية. وقامت قوات الأمن الإيراني والتركي المكلّفة بمراقبة سماحة الإمام، بمنعه من ممارسة أي نشاط سياسي أو اجتماعي.
مرحلة النفي والإبعاد:
استغرقت إقامة الإمام بتركيا أحد عشر شهراً. وخلال هذه الفترة عمل نظام الشاه بقسوة لم يسبق لها مثيل على تصفية بقايا المقاومة في إيران.
مثّلت الإقامة الجبرية في تركيا فرصة اغتنمها الإمام في تدوين كتابه المهم “تحرير الوسيلة”؛ حيث تطرّق لأول مرة آنذاك في كتابه هذا -الذي يمثّل الرسالة العملية لسماحته- إلى الأحكام المتعلقة بالجهاد والدفاع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمسائل المعاصرة.
في يوم 5-10-1965 يُنقل سماحة الإمام برفقة ابنه السيد مصطفى، من تركيا إلى منفاه الثاني بالعراق، ليُقيم في مدينة النجف الأشرف. ومن منفاه في النجف كان سماحة الإمام، فضلاً عن انشغاله بتدريس الفقه لمرحلة (البحث الخارج) وعرضه للأُسس النظرية لمبدأ الحكومة الإسلامية التي حملت عنوان “ولاية الفقيه”، كان يتابع بدقّة الأحداث السياسية التي تشهدها إيران والعالم الإسلامي، رغم كل الصعوبات الموجودة، وكان حريصاً على إيجاد قنوات الاتصال مع الثوريين في إيران، ومع عوائل شهداء انتفاضة الخامس من حزيران، والسجناء السياسيين بشتّى السبل.
وقد وفّر وجود الإمام في العراق الفرصة لأن يكون على اتصال مباشر بالمؤمنين والطلبة المسلمين الموجودين خارج البلاد بنحو أفضل من السابق. وكان لذلك دور كبير في نشر أفكاره وأهداف النهضة على المستوى العالمي.
فأثناء اعتداءات الكيان الصهيوني والحروب العربية الاسرائيلية، بذل الإمام الخميني (قدس سره) جهوداً كبيرة في الدفاع عن نهضة المسلمين الفلسطينيين ودول خط المواجهة من خلال اللقاءات المتعددة التي كان يجريها مع زعماء الفصائل الفلسطينية المناضلة، وقيامه بإرسال المبعوثين إلى لبنان، وإصدار فتواه التاريخية المهمّة التي اعتبر تقديم الدعم العسكري والاقتصادي لثورة الشعب الفلسطيني والبلدان التي تتعرّض للاعتداءات الصهيونية، واجباً شرعياً. وكان ذلك من جملة النشاطات التي تصدر لأول مرة من أحد مراجع الشيعة الكبار.
لقد حافظت بيانات سماحة الإمام الباعثة للوعي ونداءاته المثيرة للعزائم والهمم، التي تناولت الأحداث الداخلية لإيران، على إبقاء مشعل النضال متّقداً دائماً، في الوقت الذي كان الشاه يعيش ذروة جبروته، وكان يحضّر للاحتفال بمرور ألفين وخمسمئة عام على تأسيس الإمبراطورية الشاهنشاهية، وكان منهمكاً في إيجاد نظام الحزب الواحد في البلاد، حزب رستاخيز (البعث).
كانت خطابات الإمام ونداءاته تشحذ الهمم وتبعث الأمل في مثل هذه الظروف، وتزيد من عزم المناضلين ومقاومتهم، الذين كانوا يتعرّضون في غياهب السجون إلى أشد أنواع التعذيب الوحشي على أيدي أفراد “السافاك”، وهم يمضون فترات أحكامهم الطويلة.
ذروة الأحداث وانتصار الثورة الإسلامية:
مثّلت شهادة آية الله السيد مصطفى الخميني (رضوان الله عليه) –الابن البكر للإمام (قدس سره)- في 23-10-1977، ومراسم العزاء التي أقيمت في إيران؛ نقطة الانطلاق لإنتفاضة الحوزات العلمية ثانية وانتفاض المجتمع الإيراني المؤمن. ومما يثير الحيرة والدهشة أن الإمام الخميني (قدس سره) وصف هذا الحادث المؤلم بأنه من الألطاف الإلهية الخفية.
وفي غضون ذلك بادر نظام الشاه إلى الانتقام من الإمام والشعب، بنشره مقالاً في إحدى الصحف اليومية الرسمية للبلاد، يسيء إلى الإمام الخميني (قدس سره). فأثار المقال استنكاراً واسعاً بين صفوف أبناء الشعب، وقاد إلى اندلاع انتفاضة التاسع عشر من دي 19-1-1978 في مدينة قم، والتي قتل فيها العديد من طلبة العلوم الدينية.
ومرّة أخرى تندلع الثورة من مدينة قم وتعمّ مختلف أنحاء البلاد في فترة قياسية. وقد ساعدت مراسم إقامة مجالس التأبين في اليوم الثالث والسابع والأربعين من رحيلهم إحياءً لذكرى شهداء الإنتفاضة الأخيرة، في كل من مدينة تبريز ويزد وجهرم وشيراز وأصفهان وطهران؛ ساعدت في بروز إنتفاضات متتابعة أخرى. وطوال هذه الفترة كانت نداءات الإمام الخميني (قدس سره) المتتالية وأِشرطة التسجيل المتضمّنة لخطابات سماحته، التي كان يدعو الناس فيها إلى الثبات والاستقامة ومواصلة النضال والثورة حتى تداعي أركان السلطة وتشكيل الحكومة الإسلامية، كانت تسجَّل وتوزّع على مساحة واسعة من إيران من قبل أنصار الإمام وأتباعه.
عجز الشاه رغم لجوئه إلى ارتكاب المجازر الجماعية، عن إخماد شرارة الثورة التي اندلعت. ولم يتمكّن الشاه رغم إعلانه الأحكام العرفية في إحدى عشرة مدينة، واستبدال رئيس الوزراء ومسؤولي المناصب العليا، أن يترك أي تأثير للحيلولة دون اتساع رقعة الثورة. إذ كانت البيانات الفاضحة للنظام والأوامر الجهادية التي كان يصدرها الإمام الخميني (قدس سره)، تحبط كافة المناورات والدسائس السياسية والعسكرية التي كان يلجأ إليها الشاه.
وفي اللقاء الذي جمع وزيريّ خارجية إيران والعراق في نيويورك، قرّر الطرفان إخراج الإمام الخميني من العراق. وفي 24-9-1978 حاصرت القوات البعثية منزل الإمام في النجف الأشرف، وأبلغت الإمام بأن مواصلة إقامته في العراق منوطة بإيقاف نشاطاته السياسية والتخلّي عن النضال.
وأصرّ الإمام على مواصلة نضاله ولم يركن للضغوطات البعثية مما دفعه إلى ترك النجف الأشرف في 24-10-1978 بعد ثلاثة عشر عاماً من النفي، متوجهاً إلى الكويت. إلا أن الحكومة الكويتيةـ وبطلب من نظام الشاه، منعت الإمام الخميني (قدس سره) من دخول أراضيها. وبعد أن تشاور الإمام مع ابنه المرحوم حجة الإسلام والمسلمين السيد أحمد الخميني (رضوان الله عليه) قرّر الهجرة إلى باريس.
وصل سماحته باريس في 6-10-1978، وفي اليوم التالي انتقل للإقامة في منزل أحد الإيرانيين بنوفل لوشاتو-ضواحي باريس- وفي غضون ذلك قام مبعوث قصر الأليزيه بإبلاغ الإمام طلب الرئيس الفرنسي جيسكار ديستان، بضرورة اجتناب أي نوع من النشاط السياسي. فكان ردّ الإمام حازماً إذ صرّح بأنّ هذا النوع من المضايقات يتعارض مع إدعاءات الديمقراطية. وأنّه لن يتخلى عن أهدافه حتى ولو اضطره ذلك إلى التنقّل من مطار إلى آخر ومن بلد إلى آخر.
إن فترة الأربعة أشهر من إقامة الإمام في باريس، جعلت من “نوفل لوشاتو” أهم منبع خبري عالمي. فقد أضحت حوارات الإمام ولقاءاته المختلفة مع حشود الزوّار الذين كانوا يتدفقون على نوفل لوشاتو من مختلف أنحاء العالم، سبباً في أن يتعرّف العالم أكثر فأكثر على أفكار الإمام وآرائه بشأن الحكومة الإسلامية والأهداف القادمة للثورة.
أما الشعب الإيراني فقد صعّد من حدّة تظاهراته مستلهماً توجيهات سماحة الإمام (قدس سره) وإرشاداته. ونتيجة لاتساع رقعة الاضطرابات شلّت حركة المراكز والمؤسسات الحكومية. ولم تجد نفعاً كل محاولات الشاه في تغيير رئاسة الوزراء وإعلان تأسفه عن أعماله السابقة، وإطلاق سراح السجناء السياسيين إلى غير ذلك، لم تجدِ نفعاً في إخماد الثورة والحيلولة دون تنامي أحداثها.
في هذه الأثناء أعلن قائد الثورة الإسلامية للشعب عن تشكيل مجلس قيادة الثورة وتعيين أعضائه. وقرّر الشاه بدوره الخروج من البلاد في 16-1-1979 تحت ذريعة المرض والحاجة إلى الراحة.
أثار خبر فرار الشاه من البلاد موجة من البهجة والسرور بين صفوف أبناء الشعب، وزاد من عزيمتهم على مواصلة النضال حتى إسقاط النظام.
كما أوجد قرار الإمام في العودة إلى البلاد موجة من الفرح والأمل في قلوب أبناء الشعب، مما قاد أعداء الثورة إلى ارتكاب حماقات ذليلة، حيث قام نظام الشاه –بعد التشاور والتنسيق مع الحكومة الأميركية- بإغلاق مطارات البلاد بوجه الرحلات الخارجية.
تدفّقت حشود أبناء الشعب إلى طهران من شتى أنحاء البلاد، لتلتحق بالتظاهرات المليونية التي قام بها أبناء مدينة طهران، والتي كانت تطالب بفتح المطارات.
وانصاع نظام الشاه لمطالب الشعب. وفتح مطار مهر آباد بطهران، ووصل قائد الثورة الإسلامية إلى أرض الوطن في الأول من شباط عام 1979 بعد أربعة عشر عاماً من النفي.
كان استقبال الشعب الإيراني المنقطع النظير للإمام الخميني (قدس سره) بدرجة من العظمة أجبر وكالات الأنباء الغربية على الاعتراف به، حتى أن بعضها قدّر عدد المستقبلين ما بين أربعة ملايين إلى ستة ملايين شخص.
وأعلن قائد الثورة عن تشكيل الحكومة المؤقتة رغم وجود حكومة الشاه والتي ما زالت تمارس مهامها. وفي 5-2-1979 وبتعيين رئيس الوزراء، كلّفت الحكومة المؤقتة بالتحضير لإجراء الاستفتاء العام وإقامة الانتخابات.
وفي الثامن من شباط 1979 بايع منتسبو القوّة الجوية الإمام الخميني (قدس سره) في محل إقامته بالمدرسة العلوية بطهران. وفي التاسع من شباط، وحيث توجّهت قوات الحرس الشاهنشاهي الخاص إلى قمع انتفاضة منتسبي أهم قاعدة جوية بطهران، أخذ أبناء الشعب ينزلون إلى الشوارع لحماية القوات الثورية. وفي العاشر من شباط عام 1979 راحت مراكز الشرطة والمؤسسات الحكومية تسقط الواحدة تلو الأخرى بأيدي أبناء الشعب.
ولكي يتسنّى لحكومة الشاه تنفيذ الانقلاب العسكري الذي تمّ التخطيط له بمساعدة المستشارين الأميركيين المقيمين بطهران، أصدر الحاكم العسكري لطهران بياناً أعلن فيه عن زيادة عدد ساعات منع التجوال حتى الساعة الرابعة عصراً.
في غضون ذلك دعا الإمام الخميني (قدس سره) أبناء مدينة طهران، خلال بيان أصدره، للنزول إلى الشوارع وإحباط المؤامرة الوشيكة الوقوع، وإلغاء الأحكام العرفية عملياً.
نزلت الجموع من النساء والرجال، الصغار والكبار، إلى الشوارع وراحت تقيم الخنادق، وما أن أخذت تتحرّك أولى دبابات الشاه وحاملات الجنود من معسكراتها حتى بادر أبناء الشعب إلى إيقافها وتعطيل عملها. وبذلك تمّ القضاء على آخر جيوب القوات التابعة لنظام الشاه. وفي فجر الحادي عشر من شباط 1979 أشرقت شمس انتصار الثورة الإسلامية.
تشكيل الحكومة الإسلامية ومكتسباتها:
لم يكن تحقّق وعود الإمام الخميني (قدس سره) وانتصار الثورة الإسلامية في إيران، مجرّد حادثة داخلية قادت إلى تغيير النظام السياسي؛ بل كانت الثورة الإسلامية زلزالاً مدمّراً للعالم الغربي كما وصفها كثير من المسؤولين الأميركيين والاسرائيليين والأوروبيين في مذكراتهم التي نشرت فيما بعد. وهكذا، ومنذ صبيحة الحادي عشر من شباط فبراير 1979، بدأ عداؤهم للنظام الإسلامي الفتي، بشكل سافر وواسع وشامل. كانت أميركا تقود جبهة الأعداء التي ساهم فيها بشكل فاعل كل من الحكومة الانجليزية والعديد من الدول الأوروبية الأخرى. جنباً إلى جنب مع كافّة الأنظمة العميلة للغرب، كما انضمّ الاتحاد السوفيتي السابق والبلدان الدائرة في فلكه- بسبب امتعاضهم من سيادة الدين في إيران- إلى الأميركيين وناصروهم في الكثير من مواقفهم العدائية ضد إيران.
وكان الإمام الخميني (قدس سره) يطمح، من خلال إعلان التعبئة العامة للشعب الإيراني لإعمار البلاد، إلى تجسيد مثال المجتمع الديني السليم والمتطوّر. وبوحي من ذلك أعلن عن تشكيل مؤسسة “جهاد البناء” التي هيّأت الأرضية لحضور الكوادر المتخصّصة والطاقات الثورية في المناطق المحرومة والقرى والأرياف، لتبدأ خلال فترة وجيزة عمليات شق الطرق وإنشاء المراكز الصحية والعلاجية وتأسيس شبكات المياه والكهرباء على نطاق واسع.
ولم يمض سوى شهرين على انتصار الثورة، حتى أعلن الشعب الايراني في واحدة من أكثر الانتخابات حرية في تاريخ ايران، عن تأييده بنسبة 2/98% لإقامة نظام الجمهورية الإسلامية في إيران. وتلت ذلك الإنتخابات السياسية لتدوين الدستور والمصادقة عليه، وإقامة إنتخابات الدورة الأولى لمجلس الشورى الإسلامي.
في هذا الظرف بالذات إشتد تصعيد أمواج الفتن ووتيرة الضغوط الخارجية. وكانت أميركا تسعى عن طريق طابورها، إلى إلهاء النظام الإسلامي بمشاكله الداخلية، والتمهيد لإسقاط النّظام عبر إثارتها للفتن والإختلافات.
ومن أولى الحروب التي لجأ إليها أعداء الثورة لإضعاف نظام الجمهورية الإسلامية، إغتيال وجوه الثورة وشخصياتها المهمة. وخلال فترة وجيزة غيّبت وجوه بارزة في طليعتها العلامة الشهيد آية الله مرتضى المطهّري – عضو مجلس قيادة الثورة – والدكتور محمّد مفتح والفريق قرني – رئيس هيئة الأركان – والحاج مهدي عراقي وآية الله قاضي الطباطبائي.
إن أميركا ليست فقط لم تستجب لمطالب الشعب الإيراني المشروعة، الداعية إلى تسليم الشاه وإعادة الأموال والودائع الإيرانية المجمّدة في أميركا والتي بلغت إثنتين وعشرين مليار دولار؛ بل وضعت إمكانات واسعة تحت تصرّف مسؤولي نظام الشاه الفارّين، لتمكينهم من تنظيم تشكيلاتهم في الخارج وإشهار عدائهم للنظام الإسلامي.
اقتحام السفارة الأمريكية في طهران:
ونتيجة للعداء الأميركي الصّارخ دفع غضب الشعب الإيراني مجموعة من الطلبة المسلمين الإيرانيين إلى إقتحام السفارة الأميركية في طهران، واعتقال الجواسيس الأميركان بعد القضاء على مقاومة حرّاس السفارة من الأمريكيين.
أيّد الإمام الخميني (قدس سره) الخطوة الثورية للطلبة ووصفها بأنّها ثورة أعظم من الثورة الأولى. وقام الطلبة السائرون على نهج الإمام بنشر الوثائق التي عثروا عليها في السفارة بالتدريج في أكثر من سبعين كتاباً حملت عنوان ” وثائق وكر التجسس الأميركي في ايران”.
وقد كشفت هذه الوثائق المسلّم بصحتها، النقاب عن أسرار التجسّس والتدخّل الأميركي الذي لا حدود له في كل من إيران وبلدان العالم؛ وأظهرت للعيان الكثير من عملاء أميركا وأدواتها وجواسيسها، وأساليب التجسّس والتحرّكات السياسية الاميركية في مناطق العالم مختلفة.
مثّل احتلال السفارة الأميركية، التي عُرفت في ثقافة الثورة الإسلامية بـ “وكر التجسّس”، فضيحة كبرى للحكومة الأميركية، وحقّق للشعب الايراني مكاسب عديدة لعلّ أبرزها. فضلاً عن ضمان استمرار الثورة. تحطيم الغرور الأميركي وبثّ الأمل في نفوس شعوب العالم الثالث بإمكانية مواجهة القوى الكبرى وإلحاق الهزيمة بها.
حرب الثمان سنوات مع نظام البعث الديكتاتوري:
إن هزيمة المخطّطات الأميركية التي استهدفت الإطاحة بنظام الجمهورية الإسلامية، بدءاً بالحظر الاقتصادي والعزلة السياسية التي فرضت على إيران، ومروراً بعملية “صحراء طبس” وانتهاءً بمحاولات تجزئة البلاد عن طريق دعمها للتنظيمات المعادية للثورة؛ كل ذلك دفع الحكومة الأميركية للتفكير في اختيار الخيار العسكري.
وهكذا بدأ قوات النظام البعثي المتسلط على العراق في 22/9/1980م، وبأمر من الحكومة الأميركية ودعم القوى العالمية الكبرى، عدوانه العسكري الواسع على امتداد 1289 كم من الحدود المشتركة بين ايران والعراق. وتزامناً مع تقدّم هذه القوات، قامت طائرات النظام البعثي في الساعة الثانية من عصر ذلك اليوم بقصف مطار طهران والعديد من المدن الأخرى.
قوبل خبر شن النظام البعثي الديكتاتوري للحرب ضد إيران رغم أهمّيته القصوى، بصمت مطبق من قبل المحافل الدولية والقوى العالمية كافّة. بيد أن ما يثير الإعجاب ويبعث على التأمّل إلى حدّ كبير، ردود الفعل الأوّلية التي صدرت عن الإمام الخميني (قدس سره)، التي عكستها بياناته وخطاباته التي تطرّقت إلى اعتداء جيش صدام من أبعاد مختلفة. إلاَّ أنه لا يتّسع للأسف المجال هنا للحديث عن دقائقها وخصوصياتها.
أصدر الإمام على الفور أمر المقاومة. وفي أوّل تحليل له خلال خطاب ألقاه، اعتبر أمريكا المسبّب الأساس لهذه الحرب والمحرّك لصدام - رئيس النظام الديكتاتوري الحاكم في العراقي - والداعم له.
وطمأن الإمام الشعب الإيراني بصريح العبارة بأنه إذا ما هبّ لرد العدوان من أجل رضا الله بوصفه واجباً شرعياً، ستكون هزيمة العدو حتمية، رغم كل العوامل الظاهرية التي كانت تشير إلى عكس ذلك.
حدّد الإمام الخميني (قدس سره)، في اليوم التالي من بدء الهجوم البعثي، عبر بيان وجّهه للشعب الإيراني ضم سبعة بنود مقتضبة إلاّ أنها دقيقة وشاملة؛ حدّد الخطوط العامة للطريقة التي ستدار بها الحرب وشؤون البلاد في ظروف الحرب. وفي الوقت ذاته أتمّ الحجّة على الشعب العراقي وجيشه عبر بيانات عديدة أصدرها. ومن يومها مارس إشرافه وقيادته لدفاع الشعب الطويل الشاق على مدى ثماني سنوات، بحكمة نادرة.
استقبل الشباب الإيراني الثوري أمر الإمام الداعي إلى التعبئة العامة وتشكيل جيش العشرين مليوناً بحفاوة بالغة. ويومها أوجدت صور تدريب قوات التعبئة وإرسالهم إلى جبهات القتال، في ايران أجواءً مفعمة بالمعنويات. كما أن الانتصارات المتلاحقة التي حقّقها مقاتلوا القوات الإسلامية قد أظهرت للعيان الضعف والإرباك الذي دبّ في صفوف العدوّ.
وشيئاً فشيئاً أسفرت أميركا وحلفاؤها الأوروبيون عن وجوههم المتسترة وراء الحرب وبدأت أنواع الأسلحة المتطوّرة. التي كانت عملية الحصول عليها، حتى في ظروف السلم، شاقّة للغاية وتستغرق وقتاً طويلاً من المباحثات والتنازلات. بدأت تنهال على العراق بسرعة مدهشة وتوضع تحت تصرّف صدام.
ونتيجة لذلك لم يتوان صدّام عن ارتكاب أفظع الجرائم الوحشية من قبيل القصف الجوي المكثّف للمدن والقرى وتدمير المراكز الاقتصادية، وإطلاق الصواريخ المدّمرة بعيدة المدى على المناطق السكنية التي كانت تخلّف وراءها مئات الضحايا من النساء والأطفال. وكل ذلك يتمّ على مرأى ومسمع من المنظّمات الدولية التي تدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان دون أن تنبس ببنت شفة.
ولم تتمكن المساعدات الواسعة والشاملة التي كانت تقدّم لصدام، من تغيير مجرى الحرب والموقف في جبهات القتال لصالحه، بل كان الموقف يسير بوتيرة متسارعة لصالح القوات الإسلامية.
مشاركة أمريكا المباشرة في إدارة الحرب:
وتزامناً مع تصعيد وتيرة قصف المناطق السكينة وإطلاق الصواريخ البعيدة المدى، لجأت أميركا إلى التدخّل المباشر في الحرب. إذ توجّهت حاملات الطائرات الاميركية والانجليزية والروسية باتجاه الخليج الفارسي للتواجد على مقربة من مسرح العلميات.
وكانت أميركا تعتقد بأن الخيار الوحيد المتبقّي هو تدويل الحرب ودفع البلدان الأخرى للتدخّل المباشر. ولهذا لجأت إلى ما عُرف فيما بعد بحرب الناقلات، وكانت مهمّة القوات الأجنبية الموجودة في مياه الخليج الفارسي، تتلخّص في منع تصدير النفط الإيراني وتوقيف السفن التجارية وتفتيشها ومن ثم الحؤول دون وصول السلع الأساسية إلى الجمهورية الإسلامية. وخلال هذه الأحداث تعرّضت العديد من السفن التجارية وحاملات النفط الإيراني إلى القصف الصاروخي والحملات الجوية الأميركية. كما أضرمت القوّات الأميركية النيران في العديد من آبار النفط الإيرانية ومنصّاتها في مياه الخليج الفارسي. وفي آخر ممارساتها العدوانية أقدمت الحكومة الأميركية على ارتكاب جريمة يندى لها جبين الإنسانية، إذ قامت حاملة الطائرات الأميركية” وينسن” في تموز عام 1988م بإطلاق صاروخين باتجاه طائرة مدنية إيرانية كانت تحمل على متنها 290 راكباً من النساء والأطفال والرجال، وإسقاطها في مياه الخليج الفارسي وقتل جميع ركابها.
إن حشود القوات الغربية في الخليج الفارسي وما شهدته الشهور الأخيرة من حرب الثماني سنوات، لم يأت اعتباطاً، إنما جاء في وقت أظهرت القوات الإسلامية تفوّقها التام، مما أجبر العدو على الانسحاب إلى ما وراء الحدود في معظم المناطق التي كان يحتلها من قبل، وبعد أن شارفت الحرب على اجتثاث جذور الفتنة من المنطقة. وكاد سقوط صدام على أيدي القوات الإسلامية أن يعلن للعالم هزيمة قوى عالمية عديدة في مواجهتها للثورة الإسلامية. ولهذا تركّزت مساعي أميركا ومجلس الأمن _ خلافاً لما كان عليه موقفهما في السابق_ في سدّ الطريق أمام تقدّم المقاتلين الإيرانيين والحؤول دون سقوط صدام.
وجاء بيان الإمام الخميني (قدس سره)، الذي عُرف ببيان قبول القرار 598/20 تموز 1988م ليجسّد حكمة الإمام وقيادته الفذّة بأبهى صورة. إذ تطرّق إلى نتائج الحرب المفروضة وأبعادها بصراحة ووضوح، وحدّد الخطوط العامة لمستقبل النظام والثورة الإسلامية في مختلف المجالات بما فيها المواجهة مع القوى الكبرى والتمسّك بأهداف الثورة وتطلّعاتها.
وهكذا تنتهي حرب الثماني سنوات دون أن يظفر مشعلو فتيلها في تحقيق أيٍّ من أهدافهم. ومرّة أخرى يبرهن الشعب الإيراني النبيل في ظل قيادة الإمام الحكيمة، على حقّانّيته وسلامة مسيرته، وأن يجعل أمنية تجزئة إيران الإسلامية وهزيمتها حسرة في قلوب أعدائها.
إنّ أخطر جرائم صدام وأعظم خياناته مع البلدان التي تتستر برداء العروبة والإسلام، التي شجّعته على العدوان وقدّمت له مختلف أنواع الدعم والمساعدة؛ فضلاً عن هدر الطاقات العظيمة الإنسانية والاقتصادية لكلا البلدين، هو أنه بشنّه لهذه الحرب المقيتة تنفيذاً لأوامر أسياده، قد قضى على الجهود التي بذلت على طريق توحيد الأمة الإسلامية وتحقّق ثورة الإسلام العالمية، إذ كانت الظروف قد تهيّأت تماماً لتحقيقها بعد سقوط الشاه.
وما أن استتب السلام نسبياً، أصدر الإمام الخميني (قدس سره) بياناً 3/10/1988م من تسعة بنود حدّد فيها لمسؤولي الجمهورية الإسلامية النهج الذي ينبغي سلوكه في مسيرة إعادة بناء البلاد وإعمارها. وتكفي القراءة المتأنية لهذه البنود لاستشفاف عمق نظر الإمام وأصالة القيم التي يؤمن بها.
حادثة قتل الحجاج عام ١٩٨٧ ميلادي:
من الحوادث المؤلمة التي شهدتها هذه المرحلة، المذبحة التي ارتكبها أفراد النظام السعودي بحق الإيرانيين من حجاج بيت الله الحرام، ففي يوم الجمعة السادس من ذي الحجة عام 1407 للهجرة 2/8/1987م وفيما كان أكثر من مئة وخمسين ألف حاج يسيرون في شوارع مكّة للمشاركة في مراسم البراءة من المشركين التي تتمّ في كل عام على شكل مسيرات تندد بجرائم الإستكبار والظلم العالمي الذي تمارسه بلدان عديدة كأمريكا وإسرائيل، هجم عليها فجأة من كل حدب وصوب أفراد الشرطة السعودية بلباسهم العسكري والمدني، بعد أن تم إغلاق جميع المنافذ، هجموا عليهم بمختلف أنواع الأسلحة وأمعنوا في قتلهم وجرحهم وضربهم والانتقام منهم، وقد استشهد في هذه الواقعة ما يقارب الأربعمئة حاج من الحجاج الإيرانيين واللبنانيين والفلسطينيين والباكستانيين والعراقيين وحجّاج بقية البلدان، والذي قدر بأكثر من خمسة آلاف حاج، كما ألقي القبض على العديد من الأبرياء.
رسالة الإمام الخميني إلى رئيس الإتحاد السوفياتي:
من المواقف المهمة الأخرى التي صدرت عن الإمام الخميني (قدس سره) في الأشهر الأخيرة من عمره المبارك، والتي تستحق التأمّل؛ الرسالة التي بعث بها سماحته إلى غورباتشوف، آخر رؤساء الاتحاد السوفياتي السابق، ففي هذه الرسالة التي بعث بها في 1/1/1989م أشار الإمام ضمن تحليله للتحوّلات التي شهدها الإتحاد السوفياتي، إلى عجز النظام الماركسي الإلحادي عن إدارة المجتمع، وأعلن بأن مشكلة الإتحاد السوفياتي الأساسية تكمن في عدم إيمان قادته بالله. وحذّرهم من الانقياد إلى النظام الرأسمالي الغربي وأن لا تخدعهم أمريكا. وفي جانب آخر من الرسالة، وضمن تطرّقه إلى المسائل الفلسفية والعرفانية العميقة، وإشارته إلى فشل الشيوعيين في سياساتهم المعادية للدين، طلب الإمام الخميني (قدس سره) من السيّد غورباتشوف أن يؤمن بالله وبالدين بدلاً من عقد الآمال على التوجّهات المادية للغرب.
إصدار حكم ارتداد سلمان رشدي، مؤلف كتاب “آيات شيطانيّة”:
من الحوادث المهمة والمؤلمة، التي شهدتها الشهور الأخيرة من عمر الإمام، طباعة ونشر كتاب “الآيات الشيطانية” من قبل إحدى دور النشر الغربية. وإذا ما نظرنا إلى حقيقة التأييد الغربي الرسمي لمؤلّف هذا الكتاب_ سلمان رشدي_ ندرك أن هذا الدعم مثّل بداية فصل جديد من الهجوم الثقافي الغربي ضد القيم والمقدّسات الإسلامية. إذ أن الكتاب استهدف الطعن بالأصول الإسلامية والإساءة إلى المقدّسات. التي كان التحمسّ للذود عنها سبباً في توحّد نهج الحركات الإسلامية التي ظهرت في العقود الأخيرة وانسجام أهدافها وتطلّعاتها .
أصدر الإمام الخميني (قدس سره) بتاريخ 14/2/1989م بياناً انطلاقاً من الحقائق المسلّمة بها، وعلى ضوء المعتقدات الإسلامية التي تحظى بتأييد مذاهب المسلمين، واستلهاماً من فتاوى علماء الإسلام الكبار التي تحتفظ بها الكتب الفقهية للفرق الإسلامية، أكّد فيه ارتداد سلمان رشدي والحكم عليه وعلى ناشري الكتاب المطلّعين على محتواه بالقتل.
ومع صدور حكم الإمام، وقف المسلمون بشتى مذاهبهم ولغاتهم وقومياتهم، بصفوف مرصوصة في مواجهة الهجوم الغربي الذي أعدّ له مسبقاً. وقد أظهرت هذه الحادثة للعيان، تماسك المجتمع الاسلامي ووحدة الأمة الإسلامية تجاه الأخطار التي تهدّدها؛ وأوضحت بأن المسلمين، رغم اختلافاتهم الداخلية. متى ما توفّرت لهم القيادة الحقيقية بإمكانهم -بوصفهم طليعة حركة الإحياء الديني- أن يضطلعوا بدور مصيري في رسم مستقبل العالم.
إنجازات الإمام الخميني على الصعيد المؤسساتي:
كما استطاع الإمام الخميني (قدس سره) في السنوات التي أعقبت انتصار الثورة الاسلامية، رغم المؤامرات المتلاحقة لأعداء الإسلام وفي مقدّمتهم أمريكا، التي استهدفت اسقاط الحكومة الإسلامية في ايران وفرضت حرب الثماني سنوات على الشعب الايراني المسلم؛ استطاع الإمام عبر توجيهاته وقراراته بتشكيل المؤسسات الثورية والمراكز الحيوية وإعادة تنظيم التشكيلات والمراكز الحيوية الموروثة عن النظام السابق، أن يمهّد الأرضية لخدمات واسعة وقيّمة للشعب الايراني.
إن تشكيل مؤسسات من قبيل مؤسسة “جهاد البناء” و “لجنة الإمام الخميني للإغاثة” و “مؤسسة شهداء الثورة الإسلامية” و” مؤسسة المستضعفين”، و”نهضة محو الأمية”، و…التي شملت بخدماتها أقصى نقاط إيران وأكثر القرى والأرياف المحرومة؛ هي من جملة الإنجازات التي تحقّقت في حياة الإمام الخميني (قدس سره).
كما أن تشكيل كل من “لجان الثورة الإسلامية ” و “قوات حرس الثورة الإسلامية” وإعادة تنظيم “جيش الجمهورية الإسلامية في ايران” ، ودور هذه الكيانات في المحافظة على الأمن وردّ عدوان النظام البعثي وإحباط مؤامرات الأعداء؛ تعدّ من الإنجازات المثيرة والباهرة للثورة الإسلامية.
إيجاد التحوّل والتغيير المعيشي:
ومن جملة الأمور التي تحقّقت بـتأكيد سماحة الإمام ومتابعته لها شخصياً، التحوّل الذي شهدته الحوزات العلمية، وإعادة النظر في مناهج المدارس والجامعات، وإقامة دورات جامعية جديدة بمستويات مختلفة، وإنشاء الجامعات ومراكز التعليم العالي في المناطق المحرومة، وتوسيع مدى بثّ مؤسسة الإذاعة والتلفزيون إلى أقصى نقطة في البلاد، وتقديم خدمات الاتصالات إلى أبناء هذه المناطق…. علماً أن تشكيل المجلس الأعلى للثورة الثقافية وتولّيه مسؤولية الإشراف على برامج الدورات الجامعية وتدوين المناهج الدراسية للجامعات، وإعداد الأساتذة الجامعيين، وتنظيم القبول في الجامعات، هي من جملة الخطوات التي تمّت المباشرة بها منذ أوائل انتصار الثورة الإسلامية.
وبعد عشرة أعوام من تجربة نظام الجمهورية الإسلامية في ايران، بعث سماحة الإمام الخميني (قدس سره) بتاريخ 24/4/1989 رسالة إلى رئيس الجمهورية وقتئذ_ سماحة آية الله الخامنئي_ أوكل فيها إلى لجنة من أصحاب الرأي والخبراء مسؤولية دراسة وتدوين التعديلات اللازمة في الدستور على أساس محاور حدّدتها الرسالة، وذلك بدافع إصلاح وتكميل تشكيلات النظام الإسلامي.
إن مثل هذا القرار ونظائره يشير بوضوح إلى أي حدّ كان هاجس ترسيخ وتقوية أركان الحكومة الإسلامية، يشغل فكر الإمام (قدس سره). وكيف أنه كان ينتهز كل فرصة ليمهّد الأرضية ويعبّد الطريق أمام تطبيق الأحكام الإسلامية على أحسن وجه.
الرحيل:
رغم أن الإمام الخميني (قدس سره) كان قد شارف على التسعين من عمره الشريف، إلاّ أنه لم يتوان لحظة عن السعي على طريق رقي المجتمع الإسلامي؛ وكان يعتبر أحد أكثر الزعماء السياسين نشاطاً في العالم. فإضافة إلى إطّلاعه اليومي على أهم أخبار وتقارير الصحافة الرسمية، وقراءة عشرات الملفّات الخبرية الخاصة، والاستماع إلى أخبار الراديو والتلفزيون الإيراني، كان يحرص على الاستماع للإذاعات الأجنبية أيضاً.
كان سماحة الإمام يؤمن بشدّة بالبرمجة والنظام والانضباط في الحياة، فقد كانت لديه ساعات معينّة من الليل والنهار يتفرّغ فيها للعبادة والتهجّد وتلاوة القرآن. كما أن رياضة المشي وفي الوقت ذاته ذكر الله والتأمّل والتدبّر، كانت جزءاً من برنامجه اليومي.
كذلك كان سماحته حريصاً على اللقاء بطبقات الشعب لا سيّما الطبقات المحرومة والمستضعفة، فحتّى الأسابيع الأخيرة من عمره المبارك كان لديه كل أسبوع لقاء مع عوائل الشهداء، ولم تحُل نشاطاته اليومية المكثّفة ولا حضوره المستمر اجتماعات مسؤولي النظام الإسلامي دون ذلك.
ومع أن الإمام الخميني (قدس سره) كان يعاني من مرض القلب وكان قد مكث فترة في مستشفى القلب بطهران عام 1979م، إلاّ أن سبب رحيله من هذه الدنيا الفانية كان مرض جهازه الهضمي. إذ أُجريت له عملية جراحية بناءً على نصائح الأطباء. وبعد عشرة أيام من معالجته في المستشفى، ودّع الإمام (قدس سره) هذه الدنيا الفانية في الساعة العاشرة وعشرين دقيقة من مساء يوم السبت الثالث من حزيران عام 1989م، وفي اليوم التالي نقل جثمانه الطاهر إلى مصلّى طهران الكبير ليتسنّى للشعب الايراني المنجب للشهداء، إلقاء النظرة الأخيرة على قائده الكبير.
وشيّعت الملايين من النساء والرجال، والشيوخ والشباب من مختلف أنحاء إيران، الجثمان الطاهر للقائد العظيم بمشاعر من الحزن والألم الذي لا يوصف، وكان الحضور المليوني في هذه المراسم بدرجة أثار حيرة ودهشة وكالات الأنباء الغربية التي قدّر بعضها عدد المشيّعين بأكثر من سبعة عشر مليون شخص. ووري جسده الطاهر الثرى بالقرب من “جنة الزهراء”، مقبرة شهداء الثورة الإسلامية.
أعلنت الجمهورية الإسلامية في إيران الحداد العام أربعين يوماً في رثاء قائدها. وأينما كنت تنظر تشاهد السواد ومواكب العزاء التي كان ينظّمها المفجوعون برحيل المدافع عن القيم الإسلامية. وفيما بعد أضحى المرقد المقدّس لهذا العزيز مزاراً لكل المسلمين والأحرار ودعاة الاستقلال والحرية في شتى بقاع الأرض.
المصدر: الموقع الإعلامي KHAMENEI.IR