تثبت التطورات أنَّ الإنجاز الكبير ترك تأثيره في مجمل الأحداث، وشكل، ولا يزال، عنصراً حاسماً في تحديد مسارات مستقبل المنطقة، من خلال إرسائه موازين قوى جديدة وإطلاقه ديناميات حيوية شكلت تحدياً حقيقياً للتيار الأميركي الإسرائيلي في المنطقة.
في المقابل، يتعرض كل من حزب الله باعتباره صانع الانتصار، ومحور المقاومة بصفته نتاجاً للمسار المقاوم الذي تكرس في العام 2000، لاستهداف شرس وصل إلى حدود التوحش في الكثير من المحطات، واستمر من دون توقف منذ 23 عاماً وحتى يومنا هذا الذي تحتشد فيه التحولات الكثيرة والكبيرة.
هذه التحولات أشار إليها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في خطابه الأخير، ويبدو واضحاً أنها تدفع باتجاه تعزيز حظوظ الانتصار الكبير، ما يضع أهل الإنجاز أمام تحديات كبيرة؛ ففي مثل هذه الظروف، يستخدم العدو كل أوراقه، ويستميت لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، في محاولة لاستعادة ما فقده يوم 25 أيار 2000، وهو اليوم الذي حفر عميقاً في العقل الإسرائيلي لأسباب عديدة، مرتبطة من جهة بالسياقات التي سبقت الحدث، ومن جهة ثانية بما أسَّس له هذا الإنجاز.
شكل يوم تحرير الجنوب قطيعة مع مسار بدأ بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عندما تمت "هندسة" العالم وفقاً لموازين القوى التي نتجت بعد هذه الحرب، ورست لمصلحة منظومة هيمنة بدأت ثنائية، وانتهت عام 1991 أحادية أميركية.
وما زلنا، على الرغم من التطورات الكثيرة والتحولات الكبيرة، نعيش نتائج تلك الحرب، وخصوصاً أنّ حصة منطقتنا فيها تمثلت بقيام الكيان الإسرائيلي الذي أُسند إليه دور وظيفي تمثل باستنزاف المنطقة وامتصاص قدراتها على النهوض وإخراجها من مسار النهوض والتنمية.
وقد دفعت المنطقة أثماناً باهظة على طريق تثبيت هذا الدور؛ فكانت الحروب الإسرائيلية المتتالية التي كرست الكيان الإسرائيلي وكيلاً مهيمناً في المنطقة لمنظومة الهيمنة العالمية، ووضعته على قوس صعود وتقدم في مختلف المجالات، بالتوازي مع سيطرة وهم كبير لدى معظم العرب، أنظمةً وشعوباً، بأن هزيمة "إسرائيل" غير ممكنة. وقد جاء انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 ليعطي زخماً إضافياً لمسار التقدم هذا، وليضخّم الأوهام العربية.
في هذا الجو، وضمن هذا السياق، أتى حدث تحرير العام 2000 ليوجّه الضربة القوية الثانية إلى منظومة الهيمنة في منطقتنا بعد حدث انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979. في هذين التاريخين، اهتزت "إسرائيل" بقوة، ووصلت الارتدادات إلى الجهة الراعية والداعمة لها.
ما حصل في 25 أيار 2000 هو إلحاق الهزيمة بالدور الوظيفي لـ"إسرائيل"، فقد بان بشكل واضح أن الاعتماد عليها لم يعد ممكناً، وأنّ كلّ الدعم المقدم لها لم يؤتِ أكله. والأخطر أنَّ الانسحاب حصل تحت النار، ومن دون قيد أو شرط، ما حرم العدو من فرصة تحويل الهزيمة إلى نصر، كما حدث مثلاً بعد حرب 1973، عندما نجحت "إسرائيل" في تحويل الانتصار العربي الجزئي إلى هزيمة نكراء تمثلت بخروج مصر من جبهة المواجهة.
كشف يوم 25 أيار 2000 الوهم الَّذي سيطر على المنطقة، والوهن الذي أصاب "إسرائيل"، وهنا جوهر خطاب "بيت العنكبوت" الذي ألقاه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في بنت جبيل في ذلك اليوم، إلا أن الأمور لم تنتهِ عند هذا الحد، وجاءت التطورات التي تبعت الانتصار لتراكم المأزق الإسرائيلي.
شهدت الساحة الفلسطينية اندفاعة كبيرة تمثّلت بانطلاق الانتفاضة الثانية في أيلول/ سبتمبر من العام ذاته. ساد شعور عارم لدى الشعب الفلسطيني بإمكانية وواقعية منطق تحدّي منظومة الهيمنة العالمية والإسرائيلية، وترافق ذلك مع مدّ شعبي عربي اكتشف أنَّ الهزيمة ليست قدراً، وأننا قادرون على المواجهة وعلى تسجيل الانتصارات.
لقد نجح الانتصار اللبناني في إيجاد خلق دينامية جديدة؛ فالمقاومة التي بدأت بأعداد قليلة تحولت إلى محور يضم مجموعة من الدول والفصائل مستعدّة للقتال معاً. وقد أكد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في خطابه الأخير أن الحرب المقبلة "ستضيق ساحاتها وميادينها بمئات الآلاف من المقاتلين".
ولعل تجربة معركة "ثأر الأحرار" كانت بمنزلة كرة بلور كاشفة لموازين القوى الجديدة، فقد حرص العدو الذي كان يخوض الحروب ضد 3 جيوش عربية مجتمعة على التفريق بين فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة، وتحديداً بين الجهاد الإسلامي وحماس، تفادياً لتوسيع جبهة المواجهة، وخوفاً من تداعيات المعركة المتوقعة. قبلها، شكّلت معركة "سيف القدس" صفعة قوية للعدو أظهرت أن فلسطين بكل جغرافيتها مشتعلة في مواجهته. واجه العدو روحاً حية رافضة لوجود الكيان في غزة والضفة والقدس وفلسطين 48.
وجاءت التطورات السياسية الأخيرة لتمعن في كسر ميزان القوى لغير مصلحته؛ فقد بدأت دول عربية بالخروج التدريجي من العباءة الأميركية، ما ينبئ بمرحلة جديدة ومختلفة تزداد فيها هواجس العدو ويتعاظم قلقه.
في المقابل، لم يترك العدو وسيلة أو طريقة أو ورقة إلا وحركها في وجه المقاومة. شهدت المنطقة سلسلة نقلات نوعية، فكان احتلال العراق 2003، ثم حرب العام 2006، وبعد ذلك الاستثمار بالجماعات التكفيرية، وعلى رأسها "داعش"، والحرب ضد سوريا، والعمل على تحويل إيران إلى عدو للعالم العربي، وصولاً إلى الحرب الاقتصادية التي لم توفر أي بلد من محور المقاومة.
كل ذلك بهدف تجفيف مصادر القوة التي صنعت الانتصار، وعلى رأسها الإنسان الذي قاوم ودعم وأمّن البيئة الحاضنة، وتحمّل تداعيات الحصار الاقتصادي، وهذا ما أشار إليه أيضاً السيد نصر الله في خطابه الأخير.
هذا الإنسان معنيّ اليوم بمواجهة التحديات، وأبرزها التمسّك بعناصر القوة وحمايتها ورفع منسوب القدرة على تحمل الضغوطات القصوى، وخصوصاً الاقتصادية والثقافية والقيمية. إذا استطاعت شعوب المنطقة الانتصار في هذه الجبهة، فهذا يعني الاقتراب من الانتصار الكبير، ويعني التقاط اللحظة والبناء عليها وعدم تكرار تجارب إضاعة الفرص، ويعني استكمال انتصار عام 2000 ومسار إنهاء منظومة الهيمنة الأميركية الإسرائيلية التي عاثت فساداً وتدميراً في منطقتنا.
بثينة عليّق - موقع الميادين