عبر صناديق الاقتراع سيختار الأتراك رئيسهم المقبل، يحدوهم الأمل بتحقّق حزمة من الوعود كان قد أطلقها المرشحون خلال حملاتهم الانتخابية.
ويستعدّ الشارع التركي بترقّب كبير للحدث الأبرز لهذا العام، والذي قد يحمل في طياته تغييرات عميقة في السياسة الداخلية والخارجية تمتد لخمس سنوات مقبلة؛ في حال استطاعت المعارضة الوصول إلى سدة الحكم.
وقام المرشحون بحملات انتخابية واسعة، وعقدوا لقاءات مكثّفة مع شرائح المجتمع وفئاته كافة، وحظيت الأقليات العرقية الأكثر تعداداً بموضع اهتمام، في محاولة لاستمالتهم واستقطاب أصواتهم.
وتعتبر تركيا موطناً زاخراً بالأعراق والإثنيات، وتحتضن لغات وثقافات وتقاليد اندمجت مع بعضها البعض لعدة قرون، واجتمعت أنماط الحياة وأنماط المعتقدات والجماعات العرقية المختلفة لتشكّل هوية مشتركة يكون فيها العرق التركي هو العامل الحاسم، وبينما اندمجت أغلب الأعراق بسلاسة في البوتقة العامة للمجتمع، بقيت عناصر الخصوصية صارخة عند بعض الأعراق.
وعلى مدى الألف سنة الماضية سيطر الأتراك على هذه البقعة من الأرض، وكانت هجرتهم المكثّفة إلى الأناضول واعتباره وطناً؛ عاملاً مهماً في تكوين دولة تركية قوية، ولم يمنع ذلك استمرار الأرمن والكرد والعرب وغيرهم من الجماعات العرقية في الوجود، كما شهدت المنطقة بعد ذلك هجرات لمجموعات من أصول غير تركية مثل الشركس والجورجيين والألبان والبوسنيين والبلغار والصرب والكروات من البلقان والقوقاز.
ولا توفّر الإحصائيات المتعلّقة بالأقليات المختلفة في تركيا بيانات دقيقة ووافية، ولكن مما لا شك فيه أن الأقلية الكردية هي الأقلية العرقية واللغوية الأكبر في تركيا، وهي ثاني أكبر مجموعة عرقية بعد العرق التركي، وتشكّل ما لا يقلّ عن 20% من التعداد السكاني العام في البلاد.
ويتمسّك الكرد بلغتهم الأم "الكردية" ويتحدثون بلهجات مختلفة كرمانشي وزازاكي وغيرها، وينتمي الكرد إلى الدين الإسلامي، وتتباين انتماءاتهم الطائفية، وغالبيتهم على المذهب السني، ويتبع نحو 30% المذهب العلوي، كما ينتمي بعضهم إلى الطرق الصوفية واليزيدية وغيرها.
ويقطن أكثرهم المناطق الشرقية والجنوبية الشرقية من تركيا، وهي تعد موطنهم الأصلي، وكانوا سابقاً يمثّلون أغلبية ساحقة في هذه المناطق، ولكن الهجرات الطوعية المتتالية لأسباب اقتصادية إلى المدن الكبرى كمدينتي أنقرة وإسطنبول، ثم الهجرات القسرية مع اندلاع النزاع المسلح؛ أسفرت عن انتقال كثيرين منهم إلى مدن الغرب والجنوب، كما فرّ الكثير منهم إلى أوروبا.
وتمثّل القضية الكردية مشكلة مزمنة للحكومات التركية المتعاقبة منذ تأسيس الجمهورية عام 1923، حيث قام الكرد بالعديد من حركات التمرّد مطالبين بحكم ذاتي، فنتجت عن ذلك مواجهات عسكرية مستمرة بين الجيش التركي من جهة وحركات التمرّد التي كان يقودها حزب العمل الكردستاني اليساري بشكل أساسي، إضافة إلى عدد من المناوشات بين الحكومة وأحزاب أخرى ذات توجّه إسلامي.
ويقول عبد الناصر سنجي وهو صحافي ومحلل سياسي إنّ "القضية الكردية تمثّل معضلة لا يمكن حلها في تركيا؛ فبالرغم من رغبة الحكومات المتتالية في استمالة الكرد، فإن أي حكومة لا تستطيع تجاوز الخطوط الحمر للسياسة العامة للدولة؛ وهي الوحدة الوطنية".
وأضاف في تصريح صحفي، "إن محاولة أي حكومة تقديم وعود بحكم ذاتي للأقلية الكردية، سيجعل تلك الحكومة في خطر مواجهة داخلية أكبر مع الشعب والجيش".
ويحتل العرق القوقازي في تركيا المرتبة الثالثة من حيث التعداد السكاني، والقوقازيون يمثّلون ما يقارب 2.3% من عدد سكان تركيا، ويشار إليهم على وجه التعميم بالشركس؛ وفقاً للغالبية العظمى منهم.
ويشير لفظ "القوقاز" إلى الموطن الأصلي لهذه الجماعات التي هاجر أسلافها من روسيا في منتصف القرن التاسع عشر، وهم ذوو أصول متعددة: أبخازيا وشيشان وشركس وداغستان وأوسيتيا وغيرها.
وكل مجموعة من هذه الشعوب لها لغتها الخاصة، ولكن يبدو أن هذه اللغات بدأت بالاندثار مع مرور الزمن، كون اللغة الرسمية في البلاد هي التركية، وليس هناك اعتراف رسمي بالأعراق واللغات الأخرى، ولا يجري تشجيعها على الاحتفاظ بلغتها وثقافتها الخاصة.
ويعتنق القوقازيون الإسلام، ويتركّز وجودهم في شمال غرب ووسط وجنوب تركيا، ووفقاً لاتحاد الجمعيات القوقازية يبلغ عدد الأشخاص الذين يصفون أنفسهم بأنهم شركس 3 ملايين نسمة.
ومن الأقليات العرقية في تركيا اللاز، وهم ينحدرون أيضاً من أصول قوقازية، ويقطن القسم الأعظم منهم المناطق المحاذية للبحر الأسود من تركيا ولا سيما في محافظتي "ريزه" و"أرتفين" كما استقرّ بعضهم في مناطق بورصة وسبنجا ويلوا، ويقدّر عددهم بما يقارب مليوني نسمة.
ويدين اللازيون بالمذهـب السني الحنفي، وهم بذلك على انسجام مع مذهب الغالبيـة التركية، ولغتهم الأصلية هي اللغة اللازية، وهي لغة من لغات جنوب القوقاز، واللاز مجموعة عرقية متمايزة، واللازيون شرعوا في السنوات الأخيرة في محاولة إقامة مؤسسات ثقافية تعبّر عن هويتهم وشخصيتهم.
ويشكّل العرب الأتراك نحو 2% من مجموع السكان، وتتوزّع الأقلية العربية في تركيا في المناطق المجاورة لسوريا، مثل الاسكندرون وماردين وأورفا وسيرت وديار بكر وهاتاي وغازي عنتاب. وتتباين انتماءاتهم الطائفية بين السنة والمذهب العلوي مع عدد قليل من المسيحيين الأرثوذكس والكاثوليك.
أما الأرمن فيجمعون بين كونهم أقلية دينية صغيرة وأقلية عرقية مستقلة، ويقطنون المدن الكبرى كمدينتي إسطنبول وأنقرة وكذلك شرق الأناضول، ويتحدّث الأرمن جميعاً اللغة الأرمنية، فيما يتوزّعون مذهبياً على ثلاث كنائس: الكنيسة الغريغورية الأرثوذكسية، والكنيسة الكاثوليكية الرومية، والكنيسة البروتستانتية.
وقد صنّفت اتفاقية لوزان 1923 الأرمن كأقلية، ومنحتهم الحق في الحرية الدينية، وحرية التعبير والنشر باللغة الأرمنية، وإنشاء مدارس خاصة بهم وحماية أملاكهم.
وتنتشر كذلك في تركيا مجموعات عرقية صغيرة كـ الغجر والبلغار والبوماك والبوسنيين والبوشناق.
ويشكّل المكوّن العرقي وخاصة الكردي عاملاً مهماً في الانتخابات الرئاسية، ويرى مراقبون أن الصوت الكردي قادر على تغيير النتائج، وأنه سيؤدي دوراً حاسماً في العملية الانتخابية، لأنّ كلّاً من التحالفين الرئيسيين الحاكم والمعارض يجد صعوبة في الفوز في الانتخابات من دون استقطاب الصوت الكردي.
ولم يقدّم الكرد مرشّحاً يمثّلهم في الانتخابات، فحزب الشعوب الديمقراطي الكردي الذي يعد أكبر حزب سياسي كردي في تركيا، مستبعد من الساحة السياسة التركية، ويواجه قضية أمام المحكمة الدستورية العليا تطالب بحلّه، كما اعتقل زعيمه صلاح الدين دميرتاش وغيره من قادة الحزب منذ سنوات، على خلفية اتهامات بالارتباط بحزب العمال الكردستاني الموسوم بالإرهاب.
ويرى الكاتب والخبير في الشأن التركي محمود علوش أن المعارضة التركية قادرة بشكل أكبر على استقطاب غالبية الصوت الكردي؛ بسبب المواجهة التي دخلها الرئيس إردوغان مع حزب الشعوب الديمقراطي، وبالتالي فتح الطريق أمام كمال كليجدار أوغلو ليبرم تحالفاً مع حزب الشعوب الديمقراطي من أجل الحصول على دعمه في الانتخابات الرئاسية.
ويُعتقد أن هناك تفاهماً قائماً بين حزب الشعوب الديمقراطي وتحالف الأمة المعارض بحيث يضمن حزب الشعوب دعم ممثل التحالف "كليجدار أوغلو" في الانتخابات، مقابل حصول الكرد على سلسلة مطالب، أهمها منع إغلاق الحزب وإخلاء سبيل زعيمه، وإعادة طرح المسألة الكردية في البرلمان.
والحضور الكردي يكتسب أهمية كبيرة في الانتخابات ليس فقط بالنسبة للحزبين الرئيسيين؛ بل أيضاً بالنسبة للحالة الكردية السياسية. ويقول علوش: "هناك اعتقاد سائد في الأوساط الكردية السياسية، بأن اللحظة السياسية الحالية التي تشهدها تركيا مع دخول مئويتها الثانية؛ تشكّل فرصة ربما لا تتكرّر أمام الحالة السياسية الكردية للتعبير عن نفسها بشكل أكبر في المشهد السياسي التركي، والوصول إلى الأهداف التي تطمح إليها".
وبعكس الكرد الذين أسسوا أحزاباً سياسية تعبّر بصورة واضحة عن تطلّعاتهم، واستطاعوا أن يشاركوا في الحياة البرلمانية عبر تحالفات انتخابية مع أحزاب كبرى، فإن أصحاب الأقليات العرقية الأخرى لم يحاولوا التعبير عن أنفسهم عبر أحزاب وجمعيات خاصة بهم، كما أنهم غير قادرين على تكوين تكتلات أو تحالفات سياسية، ويبقى تمثيلهم فردياً تحت مظلة الأحزاب التركية المختلفة.
ويبتعد "الأرمن" بشكل خاص عن المشاركة في الحياة السياسية؛ نظراً للخصومة التاريخية الشديدة بينهم وبين الأتراك، بسبب النزاعات العرقية التي بدأت منذ أوائـل القرن التاسع عشر، واشتدّت في أواخره ومطلع القرن العشرين، وأفسدت العلاقـة الجيدة تاريخياً بين الأرمن والأتراك.
وبالمحصّلة؛ فإننا إذا استثنينا المكوّن الكرديّ، فإن الأقليات العرقية والإثنية الأخرى ليست لها تكتلات وتحالفات سياسية تجعلها قادرة عموماً على المثول بقوة في المشهد السياسي التركي، مما يجعل تأثيرها في حسم الانتخابات المقبلة على وجه الخصوص محدوداً للغاية.