ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ عليه السلام أنه قال: "آفَةُ السَّـخاءِ الْمَـنُّ".
السَّخاءُ مِن صِفاتِ النُّفُوسِ العَظِيمَةِ التي تَدْعُو صاحِبَها إلى بَذْلِ الخَيْرِ مِن مالٍ، أو عَمَلٍ، أو وَقْتٍ، أو غَيْر ذلك بِغَيْرِ عِوَضٍ، وسَواءً بَذَلَ أو لم يَبْذُلْ فهو سَخِيٌّ، وأَرْفَعُ دَرَجاتِ الإيثار: أن تَجُودَ بِالمالِ مع حاجَتك إليه.
وقد فَرَّق اللغويون بين الكَرَمِ والجودِ والسَّخاءِ، فقالوا: الكرَمُ: الأفعال المحمُودَة، وأكرمها وأشرفها ما يُقْصَدُ بِهِ وجهُ اللهِ تعالى، فمن قَصَدَ ذلك بمحاسِنِ فِعْلِهِ فهو التَّقِيُّ، فإذاً أكرمُ النَّاسِ أتقاهم، وكلُّ شيءٍ شَرُفَ في بابه فإنَّهُ يُوصَفُ بالكرم. وأمَّا الجُودُ: فهو بَذْلُ المُقْتَنَيَاتِ، مالاً كان أو عِلمًا، وهو أيضًا: التَّسَمُّحُ بالشيءِ، وكثْرةُ العَطاء. وأمَّا السَّخَاوَة والسَّخاءُ: فهو الجُودُ، والسَّخِيُّ: هو الجَوَادُ، والجمع أسْخِياء، وهو نظيرُ الكرم والنَّدَى، وبهذا المعنى أيضًا الفُتُوَّةُ.
وقد عَرَّفَ الراغبُ الأصفهاني السَّخاءَ بأنَّه: هيئةٌ في الإنسان، دَاعِيَةٌ إلى بَذْلِ المقتنيات، حصلَ معهُ البَذْلُ أو لا، ومقابِلُهُ الشُّحُّ، والجُودُ: بَذْلُ المُقتنى ويقابلُهُ البُخْلُ، وقد يُسْتَعْمَلُ كلٌّ منهما محلَ الآخرِ.
وقال بعضُهم: السَّخاءُ أتمُّ وأكمَلُ من الجودِ، وضدُّه البُخلُ، وضِدُّ السخاءِ الشُّحُّ، والجودُ والبُخلُ يتَطَرَّقُ إليهما الاكتسابُ عادةً، وهما من ضرورياتِ الغريزة، فكلُّ سَخِيٍ جَوَادٌ، ولا عكس، والجُود يَتَطرَّقُ إليه الرِّياءُ، ويمكنُ تَطَبُّعُهُ بخلاف السَّخَاءِ. وعرَّف بعضُهم السَّخاءَ والفُتُوَّةَ: بأنَّهُ إيثارُ الخلقِ على نفسِكَ بالدُّنيَا والآخرة.
وحقيقةُ السَّخاءِ: أنَّه وَسَط بين طَرَفَي التَّبذيرِ والتَّقتيرِ. وهذه الحالة هي التي وصف الله تعالى بها عبادَ الرحمان فقال: "وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا"﴿67/ الفرقان﴾.
بل جاء الأمر الرَّبَّانيّ ناهياً عن الإسراف والتقتير وداعياً للتَّحقق بالوَسَطيَّةِ في الإنفاق فقال تعالى: "وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ﴿29/ الإسراء﴾.
والسَّخاء من أشرف الخِصال النفسية، وأنبل الصفات الأخلاقية، وهو أصل من أصول النجاة والفَوز، ورأسُ الزُّهد، لأن من أحبَّ شيئاً أمسكه، ولا يسخى بماله إلا من صَغُرَت الدنيا في عينيه.
وجاء عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله: "السَّخاءُ خُلُقُ اللَّهِ الأعظَمُ" و"ما جَبَلَ اللَّهُ ولِيّاً لَهُ إلّا عَلى السَّخاءِ" وجاء عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "السَّخاءُ خُلُقُ الأنبياءِ" وعنه أيضاً: "السَّخاءُ والشَّجاعةُ غَرائزُ شَريفَةٌ يَضَعُها اللَّهُ سبحانَهُ فِيمَن أحَبَّهُ وامتَحَنَهُ".
وجاء عن الإمامُ الصّادق عليه السلام: "السَّخاءُ مِن أخلاقِ الأنبياءِ، وهُو عِمادُ الإيمانِ، ولا يكونُ مؤمنٌ إلّا سَخيّاً ، ولا يكونُ سَخيّاً إلّا ذو يَقينٍ وهِمَّةٍ عالِيَةٍ، لأنَّ السَّخاءَ شُعاعُ نورِ اليَقينِ، ومَن عَرَفَ ما قَصَدَ، هانَ علَيهِ ما بَذَلَ".
وذكرت الروايات الشريفة عدة من الآثار المُهِمَّة للسَّخاء، فذكرت أنه يستر العيوب، ويزرع المحبة في القلوب، ويُكَثِّر الأولياء، ويستصلح الأعداء، ويُصفّي النفوس، ويُزَيِّنُ الأخلاق، ويُمَحِّصُ الذنوب، ويزيد في الرزق، ويدفع العثرات، ويُقَرِّبُ من الله.
لكن السَّخاء هذا قد يُصاب بآفَة تعدمه وتحوِّله من نِعمة في يد السَّخِيِّ إلى نِقمة، وتلك الآفة هي المَنُّ، وذلك بأن يمُنَّ على الذي يعطيه ويسخو عليه، والعقل يَذُمُّ المَنَّ والمَنَّان، والله تعالى يذمهما، قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴿264/ البقرة﴾".
إن المَنَّ يتعارض مع السخاء، ويُحبِط العطاء، وإن الذي تسخو عليه ثم تَمنُّ عليه يتمَنّى لو أنه لم يأخذ منك شيئاً، بل يتمنى لو أنه لم يَرَك لأن المَنَّ يجرح قلبه ويؤذيه نفسياً أكثر من سعادته بالعطاء الذي تلقَّاه.
بقلم /الباحث في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي