هذا الأمر أوضحته طبيعة اللقاءات التي أجراها وفد الجهاد مع القيادات العراقية الرسمية، إذ التقى النخالة والوفد المرافق معه كلاً من الرئيس العراقي عبد اللطيف جميل رشيد، ورئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني، ورئيس مجلس النواب العراقي محمد الحلبوسي، ونخبة واسعة من قادة الأحزاب وفصائل المقاومة العراقية، إضافة إلى لقاءات متعددة مع شخصيات ومرجعيات دينية مرموقة من كل المذاهب الإسلامية، لتسجل الزيارة ترحيباً عراقياً رسمياً واسعاً من كل الأطياف السياسية.
لم يكن الاستقبال الشعبي العراقي بعيداً من الحفاوة الرسمية، فوفد حركة الجهاد الإسلامي شارك في 26 لقاء وفعالية شعبية خلال فترة الزيارة التي لم تتجاوز 4 أيام، والتي واكبت احتفالات العراق بيوم القدس العالمي، لتُقرأ من الزيارة مجموعة من الرسائل السياسية، أهمها:
أولاً، يؤكد العراق صدق توجهه السياسي وجديته تجاه دعم القضية الفلسطينية، من خلال دعمه خيار المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي، فحركة الجهاد الإسلامي هي حركة مقاومة وتحرر وطني تدعو إلى كنس الاحتلال الصهيوني عن كامل التراب الفلسطيني.
لذا، الجهاد حركة ترفض الحل المرحلي، ولا تقبل بالاعتراف بـ"إسرائيل" على أي شبر من الأرض الفلسطينية، وترفض الاعتراف باتفاق أوسلو، ولم تشارك في أي مرحلة سياسية في السلطة الفلسطينية التي نتجت من الاتفاق.
لذلك، اختيار العراق أن يكون زياد النخالة أول شخصية فصائلية يتم استقبالها رسمياً، بما يمثله من رمزية كبيرة في قيادة المقاومة الفلسطينية، على الرغم أنه لا يحمل أي صفة في النظام السياسي للسلطة الفلسطينية أو في منظمة التحرير الفلسطينية، هو مؤشر حقيقي على أن هناك حماسة عراقية شديدة لفلسطين والقدس والمقاومة، ودعماً رسمياً من الدولة العراقية لخيار المقاومة والكفاح المسلح ضد الاحتلال الإسرائيلي، من أجل استعادة كامل الحقوق الفلسطينية.
ثانياً، تأتي الزيارة ضمن جهود الدولة العراقية لتحصين العراق والشعب العراقي من مخاطر التطبيع مع "إسرائيل"، والتي كان درة تاج خطواتها تشريع مجلس النواب العراقي في شهر أيار/ مايو 2022 قانون تجريم التطبيع مع "إسرائيل" الذي حظي بإجماع الكتل السياسية في المجلس.
لذا، يمكن قراءة حرص كامل الطيف السياسي الرسمي والشعبي على لقاء وفد حركة الجهاد الإسلامي بهذا الانفتاح والدفء، على أنه تصويت مرة أخرى على تجريم التطبيع مع "إسرائيل"، وبالتالي قطع الطريق بشكل تام أمام الأحلام والهواجس الإسرائيلية والأميركية بإمكانية ضم العراق إلى نادي "اتفاقيات أبراهام" التطبيعية.
ثالثاً، يعد توقيت الزيارة من أهم الرسائل التي تحملها، فقد جاءت في يوم القدس العالمي، وفي ظل توتر عسكري كبير في كل ساحات محور المقاومة، نتيجة الممارسات الصهيونية تجاه المسجد الأقصى خاصة، ومدينة القدس عامة، كأن العراق يؤكد بشكل لا لبس فيه أنه ساحة من ساحات المواجهة مع الاحتلال الصهيوني، وخصوصاً مع تكريس إستراتيجية وحدة الساحات خلال يوم القدس هذا العام.
وبذلك، يتأكد ما كانت "إسرائيل" تستشعره منذ وقت مبكر بأن العراق بات مجدداً تهديداً لأمنها القومي، وهو ما دفعها إلى قصف بعض مواقع المقاومة العراقية في مناطق شرق العراق، وتأكيد التقديرات الاستخباراتية الإسرائيلية أنَّ هناك صواريخ في مناطق شرق العراق موجهة تجاه "إسرائيل".
رابعاً، الزيارة ابتعدت كل البعد عن حساسيات الانقسام الفلسطيني. من جهة، التقى وفد حركة الجهاد الإسلامي السفير الفلسطيني في العراق في أجواء ودية. من جهة أخرى، إن الجهاد كحركة لا تطرح نفسها بديلاً سياسياً من حكم السلطة الفلسطينية بالمطلق، لكونها تحت سقف أوسلو.
أما بالنسبة إلى منظمة التحرير الفلسطينية، فما لم يتم إعادة ترتيبها وبنائها على أسس سليمة بعيدة كل البعد من الاعتراف بـ"إسرائيل"، فمن الواضح أن الجهاد لن يكون جزءاً فيها، وبالتالي الجهاد عنوان وبوابة مركزية بالنسبة إلى العراق لدعم خيار المقاومة الفلسطينية بعيداً من الحساسيات العربية الرسمية الناتجة من تداعيات الانقسام الفلسطيني.
خامساً، دشنت الزيارة انفتاح جغرافيا عربية جديدة أمام المقاومة الفلسطينية، وبالتأكيد ستمثل رئة إضافية داعمة لها داخل محور المقاومة، في ظل شدة وطيس المواجهة المفتوحة مع الاحتلال، وخصوصاً في الضفة والقدس، بعدما حاولت أميركا و"إسرائيل" طمس هوية العراق المقاوم وتغييبها، ولكن عبثاً، بل إن الزيارة تعدّ إعلاناً رسمياً وشعبياً بأن العراق بات ساحة مواجهة مباشرة مع الاحتلال الإسرائيلي.
حسن لافي