قال تعالى: "... يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا..."﴿61/ هود﴾، أي أوجَبَ عليكم عمارة الأرض،. وقد رُوِيَ عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قوله في تفسير الآية المتقدمة: "أَمّا وَجْهُ العِمَارَةِ فَقَوْلُهُ "هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا" فَأَعْلَمَنا سُبْحانَهُ أَنَّهُ قَدْ أَمَرَهُمْ بِالْعِمَارَةِ".
ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ عليه السلام أنه، قال: "آفَةُ الْعُمْرانِ جَوْرُ السُّلْطانِ".
فعِمارة الأرض ليست مسألة مستحبَّة، ولا مسألة كَمالية، بل من أهم واجبات الإنسان فيها. ويتحدَّد العمران بثلاث مستويات أساسية: المستوى الاقتصادي: ويتمثَّل في طُرِقِ كَسبِ العَيش، والعمل والحصول على المال، وكيفية الحفاظ عليه وعدم إهداره وتبذيره والإسراف فيه، والعدالة في توزيعه على مختلف شرائح المجتمع وطبقاته.
والمستوى العِلمي والمَعرفي: فبالعلم والمعرفة يكتشف الإنسان الأنظمة والقوانين الحاكمة في الحياة، وبهما يتطور ويترَقّى، وبهما يواجِه ما يعترضه من عقبات ومُعَوِّقات، وبهما يقيم الحضارة الإنسانية المُثلى، وبهما يَصلُح حال الفرد والمجتمع.
والمستوى السِّياسي:* ويتجلّى ذلك في شكل السلطة، وعدالة الحكم، ومراعاة حقوق المواطن، بغض النظر عن لونه، وقوميته، ودينه، ومذهبه، وكما يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "النّاسُ صِنْفانِ إمّا أَخٌ لَكَ في الدِّيْنِ، أو نَظِيرٌ لَكَ في الخَلْقِ"*.
ويربط الإمام عليه السلام بين النُّمُوِّ الاقتصادي من جهة، وبين والعمران والحكم العادل من جهة أخرى حيث يقول: "لا يَكونُ العِمرانُ حَيثُ يَجورُ السُّلطانُ".
ويؤكِّد عليه السلام على أهمِيَّة وجود الدولة العادلة التي تأخذ على عاتقها إحداث النشاط العمراني في مستوياته التي سبق ذكرها فيقول: "فَضِيْلَةُ السُّلْطانِ عِمَارَةُ البُلْدانِ".
إن فضيلة الحكومة تكمن في عمارة البلدان وتنميتها وتقدمها بالبلد الذي تحكمه وتطويره وتنميته باستمرار، فبهذا تمتاز الحكومة الناجحة عن الحكومة الفاشلة.
فالتنمية هي المقياس الذي تقاس عليه الحكومات.
وفي هذه الجَوهرة العلوية "آفَةُ الْعُمْرانِ جَوْرُ السُّلْطانِ" سبق الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ابن خلدون الذي يرى أن (العُمران البَشَري لا يتحقق إلا في ظل العدل الاجتماعي، لأن الظلم مؤثر في السلوك البشرى، يُضعِفُ النفس ويجعل مزاجها مريضاَ واهِناً، ويَهدِم قِيَمَ الخير في الطبيعة النفسية، ويؤدى ذلك إلى الانقباض عن الكسب وذهاب الآمال في تحصيل الأموال، فيقعد الناس عن الأعمال والكسب، وتكسد مجالات العمران، ويخرج السكان من الأمصار، فيؤدى ذلك إلى تراجع العمران وفساد الإنسان).
فحيث يكون جَوْرٌ وظلم يكون تقهقر وتراجع وخراب، الأفراد يتراجعون في كل شيء والمجتمع يتراجع.
إن استقرار الدول وتحولها إلى بلد جاذب للاستثمارات إنما يقوم على اتساع العدالة فيها وشمولها لكل شيء، ووجود مَنظومة حُقوقية قوية تُوَفِّر شروط العيش الكريم وتمنع التمايز بين الأفراد في الحقوق والواجبات، وتحول دون نشوء الطبقية الفاحشة، وتمنع تهميش الطبقات الفقيرة لصالح الطبقات الثرية، فلو حَلَّ الجور محل العدالة، فلن تقوم للمجتمع قائمة، ولن يستقر أي نظام سياسي، ولن تكون نهضة ولا عمران.
وقال تعالى: "أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ"﴿9/ الروم﴾.
بقلم/الباحث في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي