إنَّ الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ يريد أن يركّز في وجدان الإنسان، أن كل حياته في دورها الإيجابي تختصرها (الكلمة الطيبة)، كما أنّ كلّ حياته في دورها السلبي تختصرها (الكلمة الخبيثة).
فالإنسان الذي يعيش العقل كما يريده الله، ويعيش القلب كما يحبّه الله، ويعيش الحركة كما يرضاها الله، هو (كلمة الله) المتجسِّدة في إنسانه، ونحن نؤمن أنَّ الله سبحانه وتعالى أعطى عيسى (ع) صفة أنّه كلمته، وربّما يفسّرها البعض لأنَّه انطلق من إرادة الله التي يعبّر عنها {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.
ولكنّنا قد نستوحي من (كلمة الله)، أنَّ النبي عيسى (ع) في كل روحيّته، وبكلّ انفتاحه على الرسالة في واقع الإنسان، وبكلِّ جهده وجهاده، وبكلّ الحبّ الذي أعطاه للإنسان وللحياة كلّها، جسَّد الكلمة التي يحبّها الله من حيث تجسّدها في الإنسان.
ونستطيع أن نستوحي من كلّ القرآن الكريم، أنَّ الله أراده أن يغدو كلَّ حياة الناس، ولعلّ القمة في هذا التجسّد القرآني في الإنسان، يتمثّل في النبيّ محمّد (ص) والأئمة الهُداة من أهل بيته (ع)، لاعتبار أنّهم القرآن الناطق، فقد تحوَّلوا إلى كلمة، وتحوَّلت الكلمة فيهم إلى عقل وروح وحركة وحياة، وهذا ما يريده الله منّا، بأن تتحوّل الكلمة القرآنيَّة عندنا عقلاً نفكّر به في خطّ القرآن، وقلباً نتحسَّسه في عواطفنا في عاطفة القرآن، وحركة نعيشها في حركة القرآن، وأن لا تكون الكلمة حروفاً، بل إنساناً، بكلّ ما تعنيه إنسانيَّته التي تتحرّك من خلال معاني الكلمات القرآنية، وهذه هي قمّة هدف التربية في الإسلام، بأنْ نحوِّل القرآن إلى شيء نعيشه ونحسّه ونتمثّله ونتحرّك فيه.
هذه هي الكلمة الطيّبة، لأنّ الطيبة ليست محدودة في جانب معيّن، فهي كلمة طيبة لأنّها تغني الحياة وتعطيها حركيّتها وحيويّتها، وهي كلمة طيّبة للإنسان لأنها تجعل عقله طيّباً ينفتح بكلّ الطّيب الذي يتحرّك به الفكر، فتشعر بطيب الفكر في عقله، وتجعل القلب طيّباً، فإذا بالقلب كلّه محبة وخير وانفتاح، وتجعل الحركة طيّبة، فإذا بها تنطلق لتعطي فاكهة فكرية هنا، وثمرة روحية هنا، ومشروعاً للحياة هناك.
فالكلمة الطيّبة تمثّل كلّ إيجابيّات الحياة وكلّ إنسانية الإنسان، ولهذا شبّهها الله تعالى في عطائها وحيويتها وفي امتدادها وفي عمقها بالشجرة الطيّبة...
ثم إنّ عطاء (الكلمة الطيبة) ليس له موسم معيّن، ففي الربيع تعطيك الثمر، وفي الصيف تعطيك، وفي الشتاء وفي الخريف.. هذه هي الكلمة الطيّبة في صورتها المادية الحسّية، فهي عندما تكون صدقاً، حقاً، وعندما تكون عدلاً، علماً، وعندما تكون خيراً، فهي تؤتي أُكُلَها كل حين، فالخير لا فصل له، فكلّ الفصول فصوله، والحقّ لا موسم له، فكلّ المواسم مواسمه، وهكذا العدل وكلّ القِيَم الروحية {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً} في عمقها، وفي امتدادها، وفي عطائها، {كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا}.
والله تعالى لا يأذن إلَّا بالمحبة {وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}، فالله يضرب المثل بالشَّيء الحسيّ، لننتقل منه إلى الشَّيء المعنوي.
{وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ}[إبراهيم: 26].
فالشجرة الخبيثة ليس لها جذور، وإذا لم يكن لها جذور في أعماق الأرض، فكيف تكون لها فروع في أعالي الفضاء، فالشَّجرة تمتدّ في الفضاء بمقدار امتدادها في الأرض، فإذا كانت تعيش على السَّطح، لا علاقة لها بالعمق، فإنّها ستموت أمام أيّ عاصفة.
والكلمات الخبيثة هي كذلك، فكلمة (الكذب)، وكلمة (الغيبة)، وكلمة (النميمة)، وكلمة (الباطل)، وكلمة (الظلم)، وكلّ كلمة لا تتعمَّق في حياة الإنسان ولا ترتفع إلى الله، فهي قد تترك تأثيراً بين وقت وآخر، لكنَّها لا تستطيع أن تصل إلى مستوى الخلود.
أيُّها الناس، انظروا إلى الكلمات الطيّبة كيف امتدَّت وقد مات الرسل ومات الأولياء، ويبقى القرآن أمدَ الدَّهر يمتدّ فكراً وقيمة وحركة وحيويَّة، وانظروا إلى الكلمات الخبيثة كيف ذهبت مع الرياح، فيما يبقى الله وتبقى كلماته، ويبقى الإنسان يحلّق في الكلمات الطيّبة التي ترتفع إلى الله {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}[فاطر: 10]. فهل لنا أن نأخذ بالكلم الطيِّب في حياتنا الفرديَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة، حتى ينطلق الكلم الطيِّب ليغني حياتنا؟
أيُّها الأحبَّة: فكّروا فيما يخلد، ولا تفكِّروا فيما يموت: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ} تلهون بها لحظة أو لحظتين {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} في كلِّ الحبّ الذي تعطونه، وفي كلِّ الحقّ الَّذي تثبّتونه، وفي كلِّ الباطل الذي تهدّمونه {خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً}[الكهف: 46]، ويبقى الأمل عند الله للعاملين الصَّالحات يخضرُّ في حياتهم، وينطلقون للخضرة اليانعة في الجنّة التي أعدّها الله للمتّقين في أُخراهم.
* من كتاب "النَّدوة"، ج 2.
السيد محمد حسين فضل الله