فمن شن الجيش السوداني بقيادة عبدالفتاح البرهان ضربات جوية على معسكر لقوات الدعم السريع لإعادة تأكيد السيطرة على البلاد، إلى زعم قوات الدعم السريع برئاسة محمد حمدان دقلو (حميدتي) سيطرتها على القصر الرئاسي ومقرات أخرى، كانت محاولات من الفريقين لإثبات تقدم قوات كل منهما على الأرض.
ذلك الصراع الدائر بين الفريق (عبدالفتاح البرهان) والقائد (حميدتي) طرح سيناريوهات تقود جميعها إلى "مرحلة اللاعودة"؛ كون حدوث مواجهة طويلة الأمد بين الجانبين ستؤدي إلى انزلاق السودان إلى صراع واسع النطاق في وقت يعاني فيه بالفعل من انهيار الاقتصاد واشتعال العنف القبلي.
ويعد إشهار السلاح مرحلة جديدة أنهت علاقة تعاون وصداقة قديمة نشأت بين الفريق عبدالفتاح البرهان، والفريق محمد دقلو "حميدتي"، والتي بدأت مع النزاع في إقليم دارفور في عام 2003 إبان حكم الرئيس السابق عمر البشير.
ما كان يخشاه السودانيون وقع، فقد اندلعت مواجهات عسكرية واسعة في العاصمة السودانية الخرطوم وغيرها من المدن بين قوات الدعم السريع التي يقودها محمد حمدان دقلو المعروف باسم حميدتي والجيش السوداني الذي يقوده الفريق عبد الفتاح البرهان الذي يتولى المجلس السيادي الانتقالي الذي يحكم السوداني منذ الاطاحة بحكومة عبد الله حمدوك في أكتوبر / تشرين الأول 2021.
وكان التوتر قد تصاعد بين الطرفين مؤخراً وقام كل طرف بتعزير مواقعه العسكرية في العاصمة بسبب الخلاف بين الطرفين حول الجدول الزمني للانتقال الى حكم مدني بموجب الاتفاق الاطاري الذي تم التوقيع عليه اواخر العام الماضي ودمج قوات الرد السريع في الجيش السوداني ومن يقود المؤسسة العسكرية التي تتمخض عن دمج القوتين.
في أعقاب الاطاحة بحكم الرئيس عمر البشير في إنقلاب عسكري عام 2019 بعد اشهر من الاحتجاجات الجماهرية تم تشكيل مجلس العسكري الانتقالي وكان جميعهم من أفراد المؤسسة العسكرية إلا حميدتي، الذي لم يكن في يوم من الأيام من أفراد هذه المؤسسة، رغم انه يحمل رتبة فريق أول بقرار من البشير نفسه.
وكان حميدتي قد انتقد قبل اسابيع إنقلاب عام 2021 وقال كان "خطأ" وقال إن الانقلاب فتح الباب أمام عودة انصار الرئيس البشير واوضح: "أصبح (الانقلاب) للأسف بوابة لعودة النظام السابق".
وحذر من أن حلفاء الرئيس السابق البشير، الذي حكم البلاد لما يقارب ثلاثة عقود، يستعيدون موطئ قدمهم سياسيا.
وكان يشير بذلك إلى أنصار حزب المؤتمر القومي الحاكم السابق الذين عينوا في الحكومة بعد الانقلاب.
وقال أيضا إنه يؤيد مطالب المتظاهرين المناصرين للديمقراطية لكنه أقر بأنه "ارتكب أخطاء في بعض الأحيان".
من هو عبد الفتاح البرهان؟
تولي عبد الفتاح البرهان رئاسة المجلس العسكري الانتقالي خلفا لوزير الدفاع الفريق عوض بن عوف، الذي استقال من منصبه بعد يوم واحد فقط من توليه رئاسة المجلس وعزله للرئيس السابق عمر البشير.
وأعلن بن عوف في أبريل/نيسان 2019، أنه اختار الفريق عبد الفتاح البرهان الذي حظي بقبول نسبي من قبل الجميع، رئيسا جديدا للمجلس العسكري، واستلم مهامه رسمياً بعد أداء اليمين الدستورية.
لم يكن اسم البرهان حاضرا في مقدمة المشهد السياسي السوداني في السابق، فقد عرف بأنه عسكري مُنضبط، تدرج في مختلف المراتب العسكرية منذ أن خدم في الجيش السوداني ضابطا في سلاح المشاة، حتى أصبح قائدا للقوات البرية.
وفي فبراير/شباط 2019، أعلن البشير عن تعديلات في قيادات الجيش، شملت ترقية البرهان من رتبة فريق ركن إلى فريق أول، وتوليه منصب المفتش العام للقوات المسلحة.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2021، أعلن رئيس المجلس السيادي الفريق أول عبد الفتاح البرهان حل مجلسي السيادة والوزراء، كما أعلن حالة الطوارئ في البلاد، وتعليق العمل بمواد من الوثيقة الدستورية.
جاء ذلك بعد ساعات من اعتقال عدد من الوزراء والمسؤولين المدنيين في السودان من بينهم رئيس الوزراء عبد الله حمدوك.
يصفه عدد من زملائه بأنه شخص يتسم بالاعتدال وظل عسكريا ملتزما بعيدا عن الانتماء إلى أي تنظيم سياسي.
وتقول تقارير إن البرهان أشرف على مشاركة القوات السودانية في حرب اليمن، ضمن التحالف بقيادة السعودية بالتنسيق مع قوات الدعم السريع، بقيادة محمد حمدان دقلو الملقب بحميدتي.
ترجع جذور البرهان إلى ولاية نهر النيل الواقعة إلى الشمال من العاصمة الخرطوم، ولد في عام 1960 في قرية قندتو في أسرة دينية تتبع الطريقة الختمية، وهي إحدى الطرق الصوفية الكبرى في السودان، وكان لها دورها في الحياة السياسية السودانية ممثلة بالحزب الاتحادي الديمقراطي، المنافس التقليدي لحزب الأمة.
"قبول نسبي"
في أول تحرك بعد تولي البرهان، تواصلت قوى إعلان الحرية والتغيير التي تتبني الاحتجاجات في السودان مع المجلس العسكري الانتقالي.
وقال القيادي في التحالف، مدني عباس، إن شخصية البرهان "مقبولة نسبيا" بالنسبة لهم، وإن الهدف من الاتصالات هو التأكيد على ضرورة استجابة المجلس لمطالب المحتجين بتسليم السلطة لحكومة مدنية توافقية يغيب عنها العسكريون.
كما أكد على تمسك التحالف بمحاسبة الفاسدين والمتورطين في الفساد وإفقار الشعب السوداني.
وبرز اسم البرهان في فبراير/شباط 2019، مع إعلان البشير لتعديلات في قيادات الجيش. وشملت قرارات البشير ترقيته من رتبة فريق ركن إلى فريق أول، وتوليه منصب المفتش العام للقوات المسلحة بعد أن كان قائدا للقوات البرية.
ومع إعلان عزل البشير، كان البرهان أول قيادات الجيش وصولا إلى مقر الإذاعة والتلفزيون السوداني، قبل وصول بن عوف لقراءة بيان القوات المسلحة.
كما ذكرت مصادر أنه كان من بين القيادات التي أبلغت البشير بعزله من الرئاسة.
وظهر البرهان لاحقا في صفوف المعتصمين بساحة القيادة العامة، وهو يتحدث إلى الرئيس السابق لحزب المؤتمر السوداني، إبراهيم الشيخ، وسط هتافات تطالب بإسقاط النظام.
ويشير البعض إلى تمتع البرهان بقبول شعبي وتوافق من الأطراف السياسية في البلاد، على عكس سلفه بن عوف.
ولا يُعرف عنه ميله لأي تيار سياسي أو تبنيه لتوجه بعينه، وهو ربما ما دفع البعض إلى التفاؤل في أن يعزز ذلك من فرص نجاحه في مهمته للتوفيق بين القوى السياسية المختلفة.
ولعب البرهان دورا في الكثير من الأحداث العسكرية الكبرى في المنطقة.
وتخرج البرهان في الدفعة 31 من الكلية الحربية، وعمل ضابطا في قوات المشاة، وغيرها من وحدات الجيش. وشارك في حرب دارفور، وكذلك المعارك التي سبقت انفصال جنوب السودان عن شماله.
وانتُدب البرهان في مصر والأردن لعدد من الدورات التدريبية. وكان يتنقل مؤخرا ما بين اليمن والإمارات العربية المتحدة.
كما تولى العديد من المناصب، من بينها ملحقا عسكريا في الصين، وقائدا لقوات حرس الحدود، ورئيس أركان عمليات القوات البرية، ثم رئيس أركان القوات البرية.
وذكرت بعض المواقع الإخبارية السودانية أن البشير عرض عليه منصب والي إحدى الولايات، لكنه رفض تولي منصب سياسي.
والبرهان لديه ثلاثة أبناء، ولدان وبنت، درس أكبرهم في جامعة الخرطوم.
من هو حميدتي زعيم قوات الدعم السريع؟
الفريق أول السوداني محمد حمدان دقلو، المعروف باسم حميدتي من مواليد العام 1975 ويتحدر من قبيلة عربية بدوية على الحدود بين تشاد والسودان، استطاع أن يتسلق الدرجات، ليتحول إلى زعيم لجماعة الجنجويد المسلحة التي أثارت الخوف في النفوس وسحقت تمردا في دارفور. واكتسب نفوذا ثم دورا مهما في النظام السياسي السوداني الجديد، بوصفه ثاني أقوى رجل في البلاد وأحد أثريائها.
أدى حميدتي دورا بارزا في السياسة المضطربة في السودان على مدى عشر سنوات، ساعد خلالها في الإطاحة بالرئيس عمر البشير عام 2019، والذي كانت تربطه به علاقة وثيقة ذات يوم. ثم قام لاحقا بإخماد احتجاجات السودانيين الطامحين إلى الديمقراطية.
ومع توليه منصب نائب رئيس الدولة، تولى حميدتي، تاجر الجمال السابق والحاصل على قدر قليل من التعليم الأساسي، عددا من أهم الحقائب الوزارية في السودان بعد الإطاحة بالبشير، بما في ذلك الاقتصاد المنهار ومفاوضات السلام مع جماعات متمردة.
ويستمد الكثير من نفوذه من قوات الدعم السريع التابعة له، والتي أتقن مقاتلوها خبرة حروب الصحراء في منطقة دارفور، لكنهم يفتقرون إلى انضباط الجيش النظامي.
حمل حميدتي السلاح لأول مرة في منطقة غرب دارفور بعد أن قتل رجال هاجموا قافلته التجارية من نحو 60 شخصا من عائلته ونهبوا الجمال، وفقا لما ذكره محمد سعد المساعد السابق لحميدتي.
وانتشر الصراع في دارفور منذ عام 2003 بعد أن ثار متمردون معظمهم من غير العرب ضد الحكومة.
وشكل حميدتي، الرجل طويل القامة ذو الشخصية المهيبة، ميليشيات موالية للحكومة من رجال قبائل عربية، يعرفون محليا باسم الجنجويد، وذلك قبل أن تتحول تلك الميليشيات إلى قوات الدعم السريع الأكثر تنوعا.
واتهمت المحكمة الجنائية الدولية البشير ومسؤولين آخرين بارتكاب جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية في دارفور بدأت في عام 2003، وأدى الصراع إلى مقتل نحو 300 ألف شخص وتشريد 2.7 مليون. ولم توجه أي تهم إلى حميدتي.
حامي البشير
قالت مصادر مطلعة إنه عندما أراد البشير أن يحتمي من خصومه خلال فترة حكمه التي استمرت 30 عاما، اختار حميدتي لهذا الدور. ومع إعجابه بدهاء حميدتي ومهاراته القتالية، اعتمد البشير عليه في التعامل مع المتمردين على الحكومة في صراع دارفور وفي أماكن أخرى في السودان.
وتم إضفاء الشرعية على ميليشيات حميدتي. وحصل على رتبة عسكرية وكان له مطلق الحرية في السيطرة على مناجم الذهب في دارفور وبيع المورد الأكثر قيمة في السودان. وبينما توالت الأزمات الاقتصادية على البلاد، أصبح حميدتي ثريا.
وفي مقابلة مع بي.بي.سي قال حميدتي إنه ليس أول شخص يمتلك مناجم ذهب، ولا يوجد ما يمنع من العمل في الذهب.
وأبدى حميدتي القليل من التسامح مع المعارضة. وقال شهود إن قوات الدعم السريع شنت حملة دامية على تجمع احتجاجي في 2019 أمام وزارة الدفاع بعد الإطاحة بالبشير، مما أودى بحياة ما يزيد على مئة شخص. ونفى حميدتي إصدار أمر بالاعتداء على المحتجين.
"طموح غير محدود"
وبعد دعمه للبشير على مدى سنوات، شارك حميدتي عام 2019 في الإطاحة بحليفه القديم الذي واجه ضغوطا من احتجاجات حاشدة، طالبت بالديمقراطية وحل المشكلات الاقتصادية.
وفي إطار شراكة مدنية عسكرية أقيمت بعد عزل البشير، لم يهدر حميدتي أي وقت في محاولة رسم مستقبل السودان الذي حكمه قادة عسكريون استولوا على السلطة في معظم تاريخه بعد الاستعمار.
وتحدث علنا عن الحاجة إلى "ديمقراطية حقيقية"، والتقى بالسفراء الغربيين. كما أقام صداقات قوية في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، بعد أن أرسل قوات الدعم السريع لدعمهم ضد الحوثيين المتحالفين مع إيران في الحرب الأهلية اليمنية. وأجرى محادثات مع الجماعات المتمردة.
وقالت شخصية معارضة، طلبت عدم نشر اسمها خوفا من تعرضها للانتقام، "خطط حميدتي ليصبح الرجل الأول في السودان. لديه طموح غير محدود".
واستولى الجيش في أكتوبر/ تشرين الأول 2021 على السلطة وأعلن حالة الطوارئ، منهيا اتفاق تقاسم السلطة بين المدنيين والعسكريين في خطوة نددت بها الجماعات السياسية ووصفتها بأنها انقلاب عسكري.
وقال حميدتي في بيان مصور إن الجيش استولى على السلطة "لتصحيح مسار ثورة الشعب" وتحقيق الاستقرار.
وقال حميدتي إن الجيش مستعد لتسليم السلطة في حالة التوصل إلى اتفاق أو إجراء انتخابات. ولم يقتنع الكثير من السودانيين بذلك.
لكن الانقسامات بين قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي والجيش عقّدت جهود استعادة الحكم المدني.
وحذر الجيش السوداني قبل أيام من خطر وقوع مواجهة بعد تحركات جماعة حميدتي شبه العسكرية، وهو ما حدث السبت باندلاع المواجهات المسلحة بين الطرفين أسفرت حتى الآن عن العشرات من القتلى.