ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "إِنَّ الزَّهادَةَ قَصْرُ الْأَمَلِ، وَالشُّكْرُ عَلى النِّعَمِ، وَالْوَرَعُ عَنِ الْمَحارِمِ".
إنه الزُّهد، وهو ترك المَيل إلى الشيء، يقالُ: زَهِدَ عن الشيء أو فيه، إذا مالَ عنه، وضِدُّه الرَّغبة والحِرص، ويأتي الزُّهدُ بمعنى الإعراض عن الشيء، ويأتي بمعنى تقليل قيمة الشيء وأخذ القليل منه، يقالُ: زَهِدَ في الدُّنيا إذا قَلَّلها في عينه، وأخذ اليسير منها.
وقد حثَّت النصوص الدينية الشريفة على الزُّهد، واعتبرته من أرقى الفضائل وأعلاها، وأن الله تعالى ما اتخذ نبياً إلا زاهداً، وأن الزُّهد شيمة المتقين، وسَجية الأوابين، ومَتجر رابح، وثروة لا تنفد، وأن الخير كله في بيت ومفتاحه الزُّهد في الدنيا، وأنه زينة، وأنه من أعظم العبادة، وأصل الدين، وأساس اليقين، وعَونٌ على الالتزام الديني.
وقد انقسم الناس في فَهم حقيقة الزهد إلى اتجاهين اثنين:
الاتجاه الأول: يرى أن الزُّهد يعني التَّخَلِّي عن الدُّنيا وما فيها، وإدارة الظهر لها، والإعراض عن كل شأن من شؤونها، وعدم المشاركة في بنائها وإعمارها، وألّا يكون للمرء شأن فيما يجري في المجتمع من أحداث اجتماعية وسياسية واقتصادية، أي أن يكون سلبياً حيالها لا يهتم لشيء منها، فيكون دوره التلقي لها دون أن يكون له موقف منها، ودون أن ينكر المنكر منها، فضلا عن أن ينهض إلى تغييره، وقد خَلَّف هذا الاتجاه تداعيات خطيرة على حركة المجتمع، وشكَّل عائقاً مهماً أمام تقدمه وتطوِّره وطموحه ونجاحه.
وقد استغلَّ الحاكمون والسلاطين والسياسيون هذا الفهم، بل رَوَّجوا له، وحثّوا عليه، إذ وجدوا فيه فرصة لإبعاد الناس عن مشاركتهم في الحكم، ومراقبتهم، والإنكار عليهم إذا ما ظلموا وجاروا، أو تعدوا حدود الله في العباد والبلاد، أو فرَّطوا في الحقوق، أو أشاعوا المنكر.
الاتجاه الثاني: يرى أن الزهد يكمن في كيفية التعامل مع الدنيا وما فيها، فتارة تستعبدنا الدنيا، فيكون همّنا الحصول على كل شيء منها بأي طريق كان، وبأيّ وسيلة، سواء كانت مشروعة أو غير مشروعة، ونتألَّم لخسارتنا القليل منها، وأخرى نجعلها أي الدنيا ومتاعها مطيتنا ووسيلتنا للبناء والإعمار والتطوير فنعبد الله ونتقرَّب إليه بها، فإن نِلنا منها حمِدنا الله وشكرناه باعتباره المنعم المُفضل، وإن لم نَنَلْ منها أو خسرنا ما كان في أيدينا لم نحزن ولم نقلق، فالزهد في هذا الاتجاه لا يُقعِدُ الإنسان عن العمل، ولا يُسقِط عنه التكاليف تجاه بناء الحياة، ولا يجعله حياديا تجاه الأحداث المختلفة، ولا تجاه المنكر والظلم والطغيان.
الزهد في هذا الاتجاه هو ما ذكره الإمام أمير المؤمنين (ع) بقوله: "إِنَّ الزَّهادَةَ قَصْرُ الْأَمَلِ، وَالشُّكْرُ عَلى النِّعَمِ، وَالْوَرَعُ عَنِ الْمَحارِمِ" إن هذا الحديث الشريف يُقَدِّم لنا الزهد فعلاً إيجابياً يبني الحياة الدنيا كما يبني الحياة الآخرة، إنه يعني أن يكون الإنسان قصير الأمل، وقصر الأمل لا يعني أن يعادي الإنسان الدنيا وما فيها بل يعني أن يشحذ الهمة لإنجاز أكبر قدر ممكن من الأعمال قبل أن يَجيء أجله، فيغادر الحياة بما عمل، يغادرها وقد ترك لمن يأتي من بعده آثاراً تفيدهم، إن قصر الأمر يعني أن يشعر المَرء أن فرصته الباقية له في الحياة قليلة فيدفعه ذلك إلى استغلالها الاستغلال الأمثل.
وأما الشكر على النعم فواضح أنه أمر شديد الإيجابية، فهذا ما يُلزِم به العقل، والشكر اعتراف بالنعمة والمنعم، وإنفاق لها فيما يرضيه ويقرب منه، والورع عن المحارم يجَنِّبُ الإنسان كل ما يضره ماديا ومعنوياً، ويجعل منه شخصاً إيجابياً يأمن الناس جانبه، ويطمئنون إليه، ويثقون به.
وفسَّر الإمام أمير المؤمنين (ع) الزهد بكلام آخر شديد الأهمية فقال: "الزُّهدُ كُلُّهُ في كَلِمَتَينِ مِنَ القُرآنِ، قالَ اللَّهُ تعالى: (لِكَيْلا تَأْسَوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) فَمَن لم يَأسَ عَلَى الماضِي ولم يَفرَحْ بالْآتي فهُو الزاهِدُ". وفسَّره ثالثة بأنه إخلاص العمل لله، وحُسنُ الرَّغبة فيما عنده.
وفسَّره الإمام الصادق (ع) بقوله: "لَيْسَ الزُّهدُ في الدُّنْيا بِإضَاعَةِ المَالِ، ولا بِتَحْريمِ الحَلالِ، بَلْ الزُّهْدُ في الدُّنيا أَنْ لا تَكُونَ بِما في يَدِكَ أوثَقَ مِنكَ بِما في يَدِ اللَّهِ عزّ وجلّ".
هذه هي حقيقة الزهد، وعلى هذا فالزُّهد ليس موقفاً سلبياً من الدنيا ومتاعها وحلالها، الزهد لا يدعوك إلى التخلِّي عنها، وكيف تتخلّى عنها وقد خلقها الله لك، وسَخَّرَ أشياءها لك، وجعلك سيِّداً عليها، ودعاك إلى الاستفادة منها؟! الزهد بهذا المعنى الذي أوضحه أئمَّة الهدى (ع) فعل إيجابي، يصنع إنسانا إيجابياً في تفكيره وفي عمله.