لأنّ الصَّلاة تمثل العبادة التي يدخل فيها الإنسان المدرسة الأخلاقيّة التي توحي إليه كيف ينفتح وكيف يبتعد عن الفحشاء وعن المنكر، وبالتَّالي، كيف يحقِّق التزامه كإنسانٍ يعيش إنسانيَّته في إنسانيَّة الإنسان الآخر، فيكون الإنسان المنفتح على كلِّ خيرٍ، والمبتعد عن كلِّ شر.
وإذا تحدَّثنا عن الصيام، فإنَّ الله جعل الصَّوم وسيلة من وسائل تحصيل التقوى للإنسان، بحيث يعيش عند ممارسته الصَّوم، في حالة محاسبةٍ داخليَّة ترصد كلَّ الانحرافات التي يمكن أن تدعوه نفسه الأمَّارة بالسّوء إليها، فتأتي روحيّة الصّوم لتمنعه من ذلك.
وهكذا ينطلق في انتمائه إلى الإسلام، ليكون الإنسان الذي يعيش مع الناس، ليسلم الناس من يده ولسانه، وليأتمنوه على حياتهم، وليهجر السيِّئات. فالإسلام ليس مجرَّد كلمتين أو مجرد حالة ثقافية فكريَّة، بل هو كيانٌ يحرك الإنسان في كلِّ جوانب حياته، ليكون الإنسان منطلقاً فيما يريده الله له من الجانب العملي.
وأولى العلامات الَّتي تدلّ على النّفاق: "مَنْ إذا أئتمن خان". وإذا كان المعروف في الأمانة أنها أمانة المال، عندما يكون المطلوب حفظها وصيانتها للآخرين ممّن يودعونها عندنا، فإنَّنا نستوحي من خلال التراث الإسلامي، أنَّ الأمانة تمثّل كلّ المسؤوليَّة التي يتحمَّلها الإنسان في انتمائه الإسلامي الأخلاقي، فيكون أميناً على نفسه، فلا يظلم نفسه، ويكون أميناً على التزامه بربّه بربوبية الله، فلا يعصي الله سبحانه وتعالى ولا يُشرك به شيئاً، ويكون أميناً على رسول الله، فلا ينحرف عن سنّته وعن رسالته، ويكون أميناً على الناس في كلِّ المسؤوليات التي يتحملها.
وقد ورد في تفسير قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}[الأحزاب: 72]، أنّ الأمانة هي المسؤوليَّة، وكأنَّ الله - على طريقة الكناية - قال لهذه الظَّواهر الضَّخمة في الكون، وهي السماوات والأرض والجبال، هل تتحمَّلين مسؤوليَّة إدارة النظام الَّذي فرضته على وجودكِ؟ فقالت: يا ربّ، تكفَّل أنت بتحريكِ النظام في كلِّ ما تريده لوجودنا من أن يترك تأثيره في النظام الكوني، لأننا لا نستطيع أن نتحمل مسؤوليَّة كبرى ربما ننحرف عنها، فننال غضبك وسخطك. أمَّا الإنسان، فقد استعدَّ لحمل الأمانة، ولكنه ظلم نفسه وجهل قيمتها، {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}، لا على نحو الشمول، وإنما على نحو الظاهرة.
"وإذا حدَّث كذب"، وهو الذي يخرج عن الخطِّ المستقيم بأن يكذب في حديثه، باعتبار أنه يشوِّه صورة الحقيقة وصورة الواقع، ويوقع النَّاس في الانحرافات التي تنشأ من ذلك.
"وإذا وعد أخلف"، فهو يعد النَّاس، إمَّا بأن يلتقي بهم لتسوية بعض الأمور بينه وبينهم، أو بأن يعطيهم شيئاً، أو بأن يقضي لهم حاجة وما إلى ذلك، فيخلف في وعده.
ثم يقول الإمام (ع) وهو يريد أن يؤكِّد أنَّ هذه المفاهيم يُبغضها الله ويُبغض من التزم بها: "إنَّ الله عزَّ وجلَّ قال في كتابه: {إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الخَائِنِينَ}[الأنفال: 58]، وقال: {أَنَّ لَعْنَةَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الكَاذِبِينَ}[النّور: 7]، وقال: {وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا}" [مريم: 54].
* من كتاب "النَّدوة"، ج 18.
السيد محمد حسين فضل الله