مشهد الإجماع الذي حرص كليجدار أوغلو على تقديمه بخصوص الدعم المقدم له وعوامل القوة الأخرى تجعله منافساً قوياً في الانتخابات المقبلة. طرحت المعارضة برنامجها السياسي والاقتصادي والخطوط العريضة لسياستها الخارجية، إلا أنها ترى أن التحديات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الجديدة التي فرضها زلزال السادس من شباط/ فبراير أحدثت تحولاً لدى الناخبين الذين لم يحسموا خياراتهم التصويتية في الانتخابات بعد.
المهم بالنسبة إليها هو معرفة أولويات الشعب التركي وكيفية تحقيق استقرار سياسي يُساعد البلاد في مواجهة تداعيات الزلزال والمصاعب الأخرى، على الرغم من أن هناك العديد من الأسئلة العالقة: كيف سيتم تنظيم التصويت في المناطق المتضررة من الزلزال؟ كيف سيتمّ تسجيل الأشخاص الذين لا يحملون وثائق هوية أو المواطنين المشردين أو النازحين إلى أماكن أخرى من البلاد؟
رأت استطلاعات رأي جديدة الأسبوع الماضي أنَّ التّحالف الحاكم لايزال يحتفظ بقاعدة تأييد في أوساط الناخبين إلى حد كبير، على الرغم من تداعيات الزلزال، وأظهرت أن المعارضة لم تتمكَّن من تعزيز وضعها الانتخابي والحصول على تأييد ناخبين جُدد لها من خارج قاعدتها الشعبية.
تعتمد المعارضة على ركائز ثلاث: الأولى هي الفوز بأكبر عدد ممكن من المقاعد البرلمانية. أما الثانية، فهي منع إردوغان من الفوز بالجولة الأولى، والثالثة، وهي تحصيل حاصل للركيزتين الأوليتين، تتمثل بحشد كل الأصوات المعارضة وجميع المعادين لسياسته من أجل إسقاطه.
لاشكّ في أنّ التغير الّذي حصل في تركيا خلال السنوات الفائتة من ظروف وما شهدته من تطورات، مثل مشكلات الاقتصاد وجائحة كورونا والزلزال الأخير، أدى إلى تراجع حضور حزب العدالة والتنمية وشعبيته، وبروز رغبة لدى الكثيرين في التغيير، ولاسيما الشباب الذين لم يعرفوا سوى حكومة العدالة والتنمية في الحكم، والذين لا يرون الفرق الذي أحدثته حكوماتها مع ما قبلها، بل يرون تراجعها، وهذا طبيعي بالنسبة إلى عامة الناس الذين تتكئ عليهم الانتخابات، ولاسيما الشباب المنتمي إلى المعارضة.
يستفيد كليجدار أوغلو من الأحزاب المجتمعة حول طاولة الستة، من إسلاميين ومحافظين وقوميين وليبراليين، ومن خبرة ماكينته الانتخابية. وقد تلقى دعماً مشروطاً من حزب الشعوب الديمقراطي، ومن المتوقع أن يتواصل مع أحزاب أخرى.
وفي الفترة الماضية، عدّل خطابه السياسي، واعتمد التوافق مع باقي الأحزاب. وقد ساهم ذلك في الاستيلاء على أكبر بلديتين في تركيا، إسطنبول وأنقرة، عام 2019، عبر تحالف الشعب الذي قاده كليجدار أوغلو. وعمل كل من إمام أوغلو في إسطنبول ومنصور ياواش في أنقرة على إظهار صورة محاربة الفساد.
وكان الإعلام الغربي قد لقّب رئيس حزب الشعب الجمهوري كليجدار أوغلو بأنه "غاندي تركيا"، عندما قطع المسافة بين أنقرة وإسطنبول مشياً على الأقدام، اعتراضاً على سياسة إردوغان في حجب الديمقراطية، متهماً إياه بالديكتاتورية.
برنامج المعارضة التركية
لاشكّ في أن أهم ما طرحته المعارضة هو الانتقال إلى النظام البرلماني، وجعل الرئاسة 7 سنوات من دون تجديد، والعودة إلى قصر شنكايا الرئاسي، وجعل القصر الرئاسي الحالي في أنقرة متحفاً يمكن للعامة زيارته.
يمكن الاستنتاج، من خلال قراءة المسودة السياسات المتفق عليها، وهي مؤلفة من 240 صفحة، أن طاولة الستة عازمة على محو آثار الإردوغانية وسياساتها المعتمدة منذ 20 عاماً، وهي تعتمد الإصلاحات في الإدارة ومؤسسات الدولة، وتحديداً تفعيل وزارة الخارجية، وتتهم إردوغان بأنه ديكتاتوري قاد وحده السياسة الخارجية وهمّش وزارة الخارجية والسفراء.
تَعِد المعارضة بإجراءات وتغييرات في السلطة، وفي جميع جوانب الحياة السياسة، وتحاول نقل صورة للرأي العام مفادها أنَّ حكومة العدالة والتنمية تنتهج سياسات تخدم مصالح الأجانب. وفي أكثر من مجال، أبدت خشيتها من المجنّسين الذين يمكن استعمال أصواتهم في الانتخابات لمصلحة إردوغان.
هذا الهاجس تم نقله إلى الشارع التركي. وقد ظهر جلياً في كراهية المهاجرين العرب بالتحديد، وليس الأجانب من الدول الغربية أو من دول أوروبا الشرقية. لذلك، اقترحت بعض القواعد التقييدية ضد الأجانب في موضوع الجنسية وتبنّي سياسات ليبرالية وصديقة لبعض الأجانب، أي المستثمرين.
من الواضح أن الانتخابات ستكون تنافسية للغاية، لكن هل تنفّذ المعارضة في حال فوزها في الانتخابات مسودة السياسات؟ وهل تمتثل للتعهدات الواردة فيها؟
تظهر التغييرات المقترحة بشأن قوانين الجنسية التركية إذاً هاجس المهاجرين واللاجئين، وهي تعد بإغلاق برنامج الجنسية من أجل الاستثمار وتضييق نطاق إعطاء الجنسية وإلغائها، إذا ثبت فساد حاملها أو احتياله.
وتقترح إعادة هيكلة المديرية العامة للهجرة وتغيير الموظفين، وسيكون من مهامها مراجعة قوانين الهجرة والحماية الدولية والاتفاقيات بين الاتحاد الأوروبي، ومراجعة نظام التأشيرات التركية وقواعد تصاريح الإقامة السياحية القصيرة الأجل.
أما المهاجرون أو اللاجئون السوريون، فسيكونون في وضع الحماية المؤقتة، وسيرسلون إلى بلادهم عبر الحكومة التركية والجالية السورية في تركيا والحكومة السورية والمؤسسات الدولية، ولن يُسمح للمهاجرين بالاستقرار في منطقة معينة بشكل مكثف، ولن يسمح لهم بالبقاء في مدن أخرى غير تلك التي وُضعوا فيها، كما ستُراجع القواعد التي تسمح للطلاب الأجانب بالتسجيل في المدارس التركية والعمل أثناء دراستهم والبقاء في تركيا بعد التخرج، وستُفرض شروط إضافية.
نلاحظ في الشأن الاقتصادي إلغاء مشروع قناة إسطنبول التي اعترضت عليها المعارضة منذ البداية واعتبرتها غير صديقة للبيئة، إذ ستعمد إلى إلغاء الجزء الخاص بها. كما أنها اعتمدت ليبرالية قوية وإصلاحات تطال التطوير العقاري، وحفَّزت على تصدير خدمات التطوير العقاري من قبل الحكومة، ما سيمنح مرونة إضافية لجذب المستثمرين الملاك إلى الشركات الناشئة في تركيا، وسترفع ضرائب رأس المال والأرباح الريعية من العقارات.
وحاولت التركيز على اعتماد التقنيات والمكننة والذكاء الاصطناعي، وتطوير الأنظمة الذاتية والأصول المشفرة، وتطوير البرمجيات، والتحول الأخضر، والسياحة الصحية، والإنتاج الإعلامي والتمويل.
وستُّتخذ خطوات جريئة لجعل إسطنبول مركزاً مالياً عالمياً حقيقياً. وفي هذا الشأن، تقترب المعارضة من مشروع إردوغان ولا تبتعد عنه، لأن علي باباجان الذي تولى صياغة المشروع الاقتصادي كان لمدة طويلة وزير المالية في حكومات العدالة والتنمية.
أما الحوكمة والديمقراطية للشركات التجارية فهي من مسلتزمات الليبرالية، وستُدمج الوثائق الرسمية، مثل التراخيص التجارية وشهادات التخرج وسندات ملكية العقارات والشهادات الصحية والبطاقات الشخصية، بشكل تام في المجال الرقمي.
عوامل نجاح المعارضة في الانتخابات وإمكانياتها
هل يمكن القول إنَّ برنامج المعارضة سيقودها إلى النجاح في الانتخابات وتولي السلطة؟ الانتخابات في تركيا ليست عملية حسابية، فهي خاضعة لمعادلات سياسية واجتماعية وثقافية. كثيرة هي العوامل السياسية والثقافية والاجتماعية التي تتدخل فيها، ولكن المشكلة التي تلاحظها المعارضة تتمثل بأنّ تراجع التصويت للعدالة والتنمية لا ينقل الأصوات إلى خانتها بشكل مباشر، بل تبقى في الخانة المترددة، ولا تتحول إلى الخصم، ولا تحسم الأمر لمصلحة أحد الأفرقاء.
لكلّ الأحزاب المجتمعة كتلتها الصلبة التي ستصب في مصلحتها، ويبقى التنافس على من اعتبرتهم استطلاعات الرأي الفئة المترددة التي تصل نسبتها إلى 20%، كما أن التحالفات غير المعلنة مقررة أيضاً هذه المرة؛ فقد سارع الرئيس المشارك لحزب الشعوب الديمقراطي ميتات سنكار إلى دعوة كليجدار أوغلو إلى المفاوضات، وأشار إلى أنه سيدعمه للفوز في الجولة الأولى من التصويت إذا اتفقت الأحزاب على أجندة ديمقراطية.
وكانت زعيمة حزب الجيد أكشنار قد أكّدت أنها لن تعترض على حوار بين حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب الديمقراطي، لكنها ترفض مناقشة أيّ مطالب لحزب الشعوب الديمقراطي.
يعلم الكرد أنَّ الحصول على وعد بشأن حل القضية الكردية لن يتم في الوقت الحاضر، لكنهم يرغبون في الشراكة مع التحالف، ويأملون إطلاق سراح السجناء السياسيين وانتصار الديمقراطية من أجل الحوار، والمهم بالنسبة لهم هو إسقاط إردوغان.