أظهر اجتماع نيودلهي لمجموعة العشرين اتجاهاً جديداً للقاءات المجموعات الاقتصادية الدولية، يتماشى مع الديناميات الراهنة للعلاقات الدولية، واحترارها على وقع الصراع بين القوى الكبرى، ولا سيما في ما يخص الأزمة الأوكرانية.
ومع أنّ استغراب وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بدا في محله حين تحدّث عن عدم اعتياد لقاءات المجموعة على خوض الأزمات السياسية أو الحروب العسكرية، إلا أنّ الالتحام شبه المباشر بين القوى الكبرى في اللحظة الدولية الراهنة لا يبدو أنه قابل لترك أي مناسبة من دون التغلغل في تفاصيلها، وتعطيل عناوينها الأصلية لمصلحته.
هكذا تحوّل اجتماع مجموعة العشرين إلى كباش هدفت من خلاله الولايات المتحدة الأميركية، ومن ورائها الحلفاء الآخرون، إلى محاكمة روسيا على عمليتها في أوكرانيا، بينما انضمت بكين إلى موسكو في رفض إدانة الأخيرة ودعوتها إلى الانسحاب من المساحة التي دخلتها منذ شباط/فبراير قبل عام.
قبل أسبوعٍ من القمة، فشل وزراء مالية المجموعة بإصدار بيانٍ مشترك. خلافاتهم كبيرة، وهي إلى ما أضافته الأزمة الأوكرانية، تشمل قضايا ليست أقل أهمية في عمقها، ولا سيما ملف هيكلة الديون. ومثلهم عانى وزراء الخارجية في اجتماعهم الذي طال قضايا عالمية بارزة تشمل المساعدات الإنسانية والإغاثية في حالات الكوارث، والأمن الغذائي، وأمن الطاقة، ومكافحة الإرهاب، وتعزيز التعددية والتعاون الإنمائي.
لكن الأزمة الأوكرانية كانت العنوان الأبرز الذي هيمن على نقاشات الجميع. وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن قاد حركيةً معاكسة للجهود الهندية، فأطلق هجوماً انضمت إليه دول أخرى ضد ما سمّاه "الحرب غير المُستَفزّة وغير المبرَّرة" لروسيا في أوكرانيا. على الرغم من موقف الهند وسعيها الحثيث إلى تنحية الانقسامات جانباً، والتركيز على المضامين الاقتصادية للاجتماعات.
جهود هندية لتحييد الاجتماع عن أزمة أوكرانيا
رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي ركّز على طرحٍ يظهر مسؤولية الدول الكبرى تجاه الدول النامية، التي لا تمتلك فرصة الحضور في هذه اللقاءات لأصحاب أكبر الاقتصادات في العالم. فقد طرح مودي المخاطر التي تهدّد العودة إلى أهداف التنمية المستدامة، خصوصاً أن "العديد من البلدان النامية تكافح من أجل ديون غير مستدامة وهي تحاول ضمان أمن الغذاء والطاقة".
وإضافة إلى ذلك، أشار رئيس الوزراء الهندي إلى تضرّر هذه البلدان أكثر من غيرها من الاحتباس الحراري الذي تسبّبه الدول الغنية. داعياً إلى إعطاء صوتٍ لعالم الجنوب في النقاشات الاقتصادية العالمية، وهو الهدف الذي قال إن الهند رفعته كأولوية خلال رئاستها لمجموعة العشرين، وعبّرت عنه بإصرار من خلال طرح اتفاقياتٍ يمكن أن تساعد العالم النامي وتغذي طموحاته العالمية.
إنه ميلٌ قديم ومتجدّد للسياسة الهندية، تعبّر عنه نيودلهي اليوم في لحظة شديدة الأهمية في العلاقات الدولية، تعزّز أهميتها التحوّلاتُ العالمية الآخذة بالتبلور الآن. لكن أمام الهند في هذا الشأن مهمات صعبة، أولها ما يتعلق بها بصورةٍ خاصة، من خلال التوفيق بين مصالحها مع كتلتين كبيرتين تشكّلتا في العقدين الأخيرين، وهما تتصارعان الآن، ليس في الميادين الأوكرانية فحسب، إنما في مختلف مفاصل النظام الاقتصادي الدولي، وأسواق الطاقة، والتنافس التكنولوجي، وسوق العملات، والصراع على رؤوس الأموال، وغير ذلك الكثير...
تقف الهند عند تقاطع مصالح مع الولايات المتحدة وحلفائها من جهة، ومع روسيا تحديداً ومجموعة "بريكس" بصورةٍ عامة من جهة أخرى. وهي تحاول إدارة سياسة جمع مكاسب من الجميع في لحظةٍ محفوفةٍ بالمخاطر، وتضيق معها هوامش المناورات وفرص الاستقلال بالرأي والتوجّه.
وتنظر نيودلهي إلى خياراتها المطروحة على وقع مشاهداتها للعالم، حيث تخسر أوروبا استقلالها السياسي مع كل تطورٍ تشهده الحرب في أوكرانيا. فالأوروبيون وُضعوا في ظرف المحارب من دون اتخاذهم القرار بذلك ابتداءً. وهم اليوم على الرغم من كونهم يجتمعون ويقررون وتصدر عن رؤسائهم البيانات، إلا أنهم يدركون، وتدرك شعوبهم بصورةٍ متزايدة، أن هذه الحرب بدأت، وتجري، وسوف تنتهي، من دون سؤالهم عن تصوراتهم للمصالح المرتبطة بها.
مع الغرب، ترتبط نيودلهي بمصالح كثيرة. اقتصادها ينمو بسرعة، ترفده موارد بشرية منتجة ومتكاثرة تحوّلها إلى أكبر قوة سكانية، وهي تحتاج للأسواق. والأسواق والنمو بحاجة إلى قوة عسكرية تحميهما، خصوصاً في ظل التنافس الطبيعي الناشئ بينها وبين الصين. وجدت الهند مصلحةً لها منذ عشرين عاماً ضمن تحالف "كواد" إلى جانب كلٍ من اليابان وأستراليا والولايات المتحدة. لكن الظروف الآن مختلفة، والتحديات التي كانت بائنةً يوم تأسيس التحالف الرباعي تبدو مختلفةً اليوم، حيث يحضر في البال وجود قوى تريد تحضير الهند لتكون المحارب بالوكالة ضد الصين.
لا أحد في الشرق يستطيع أن يتولى هذه المهمة عن الولايات المتحدة. تايوان صغيرة وغير قادرة على خوض مواجهةٍ مع الدولة الأم، خصوصاً مع عدم تماسك موقفها القانوني وصلابة الموقف الصيني حيال المسألة، وعدم توقّع قدرة حاسمة لحشد دول العالم ضد بكين كما تم الأمر ضد روسيا في أوكرانيا. فالصين شريكٌ تجاريٌ أول لأكثر من 130 دولةً حول العالم، وهذه لن يكون سهلاً عليها ترك الفوائد الكبيرة التي تجنيها من علاقاتها ببكين.
الهند في موقفها وطموحاتها قد تكون الأكثر تناسباً مع هذه المهمة، لكن وقائع الجيوبوليتيك لا تؤيد هذه المواجهة. فالصين والهند دولتان مكتفيتان جيوبوليتيكياً في المناطق الحدودية، على الرغم من الاشتباكات المتكررة التي ينفخ بها لتتوهّج بين الفينة والأخرى. جبال الهملايا تقف مانعاً كبيراً للتهور، وتمثل حقيقةً لا يمكن تجاوزها. على الرغم من ذلك، فإن محاولة استخدام الهند ستتواصل. لكن جهود نيودلهي خلال رئاستها مجموعة العشرين تشير إلى إرادةٍ بالتمسك بعدم الانحياز.
مع القوى الناشئة، تنشط الهند ضمن "بريكس"، وتشترك مع دولها في مطالب العالم المتعدد الأقطاب، وهي تسعى لتحقيقه. ربما في مرحلةٍ متقدمة جداً من هذا المسار لن تقبل نيودلهي بقيادة الصين لهذه المجموعة المرشحة للتوسع، لكن هذا لا يزال بعيداً الآن.
الحرب في أوكرانيا أعطت الهند أفضليةً شديدة الأهمية حين تحوّلت بسرعة إلى الوجهة البديلة الأبرز لمصادر الطاقة الروسية التي كانت ترسل في السابق إلى أوروبا. هناك الكثير من المعلومات التي تقول إن الشحنات الروسية من النفط لا تزال ترسل من الهند عبر أطراف ثالثة إلى أوروبا نفسها. لكن بجميع الأحوال، الهند ربحت طاقةً منخفضة الكلفة وعلى المدى الطويل، وهي لا تريد التخلي عن هذه العلاقة، خصوصاً أنها علاقة متجذرة من مرحلة الاتحاد السوفياتي الذي تحفظ له صورة الفترة الذهبية من العلاقات المشتركة.
في الوقت نفسه، تمتلك الهند إرثاً قديماً في تبلور مفهوم عدم الانحياز وهي تريد الاستثمار فيه لتعالج التناقض في مصالحها بين الكتلتين، خصوصاً أن طرح استحقاق الاختيار بينهما لا يبدو مستبعداً مع استرجاع أحداث السنة الماضية حين تعرضت ألمانيا للموقف نفسه، واضطرت إلى التخلي عن العلاقات التي كانت متصاعدة مع الروس وأنابيب "نورد ستريم" وما كانت تحمله للبلاد.
لقد قاومت نيودلهي الضغوط واستمرت في استراتيجيتها المتمثلة في عدم انتقاد روسيا، أكبر مورد للأسلحة إلى الهند، وامتنعت بانتظام عن التصويت على قرارات الأمم المتحدة التي تدين الحرب في أوكرانيا، ومن بينها التصويت الذي أجري في الجمعية العامة للأمم المتحدة الأسبوع الماضي. وغلبت مصالح موانئها من خلال الإصرار على واردات الطاقة الروسية، وهي تصر الآن على أهمية الالتزام بميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي واحترام سيادة الدول وسلامة أراضيها.
وعلى الرغم من الحملة الدعائية الكبيرة التي قادها الوزراء الغربيون، لم يتمكّن هؤلاء من جرّ الهند والصين إلى موقفٍ محرج لروسيا. خصوصاً أن موقف بكين منع بصورةٍ حاسمة الاستفراد بموسكو في نيودلهي. هذا التطوّر أعطى أسباباً إضافية لتمسّك الهند بموقفها غير المنحاز. ركّزت نيودلهي بدلاً من ذلك على أمن الغذاء والطاقة والأسمدة، وتأثير الصراع على هذه التحديات الاقتصادية.
الهند تتجاوز الموقف الحرج
لم ينجح المجتمعون في نيودلهي بإصدار بيان جماعي يدين روسيا في أوكرانيا، مع معارضة موسكو وبكين للدعوة إلى الانسحاب، لكن ذلك لا يمكن اعتباره فشلاً للهند، فهي لم ترد هذا الموقف. أما ما أرادته من تركيزٍ على الملفات الأخرى فقد تحقّق جزئياً، خصوصاً أن رغبتها بمساحةٍ إضافية للدول النامية في المجموعة تحقّق من خلال قبول الاتحاد الأفريقي كعضوٍ جديدٍ، بعد ست سنواتٍ من انضمام الاتحاد الأوروبي إلى المجموعة. الآن تضم المجموعة 19 دولة، والاتحاد الأوروبي، وانضم إليها الاتحاد الأفريقي. إنه موقفٌ متقدّم للدول النامية، وفرصةٌ أرادتها الهند منذ زمنٍ طويل.
وزير الخارجية الهندي سوبرامانيام جايشانكار ألقى باللوم في فشل الإجماع على الخلافات التي شهدتها الاجتماعات حول الحرب في أوكرانيا، وهو ما لم يحتج إلى دليلٍ ليثبت قوله. واعترف أنّ بلاده التي تتولى الرئاسة الحالية لمجموعة العشرين، "لم تتمكّن من التوفيق بين الأطراف، لأن لديها وجهات نظر مختلفة". وتابع: "لو كان لدينا توافق بشأن جميع القضايا، لصدر بيان جماعي بذلك".
وأوضح جايشانكار أنّ "الوزراء اتفقوا على معظم القضايا التي تخص الدول الأقل نمواً، مثل تعزيز التعددية، والأمن الغذائي، وأمن الطاقة، وتغيّر المناخ ومكافحة الإرهاب". لقد نجحت نيودلهي في إصدار وثيقة تتضمّن ملخّصاً للاجتماع، معتمدة اللغة المستخدمة في بيان مماثل أصدرته بعد اجتماع لوزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية للمجموعة قبل أسبوع.
تُبرز هذه التطورات في إطار مجموعة اقتصادية بهذا الحجم التغيّرات التي تطال العلاقات الدولية بصورةٍ عامة، وتلقي بظلالها على مواقف الدول الطامحة إلى دورٍ مختلف في نظامٍ عالمي مختلف، والتي تسعى من خلال البراغماتية السياسية والاقتصادية والحياد السياسي إلى التعبير عن حضورها في التحوّلات الجديدة، من دون أن تضطر إلى إرسال أسلحتها إلى مناطق النزاع، والاصطفاف خلف إرادة أحد أطراف الصراع.
تعبّر الهند الآن عن وزنها الاقتصادي، وعن وزنٍ سياسيٍ غير مبالغٍ فيه، والأهم من ذلك عن إرادةٍ سياسيةٍ تبدو حتى الآن واعيةً إلى نوايا دفعها إلى مواجهة الصين، وهي نجحت خلال الاجتماع في أن تتجنّب السيطرة على موقفها وإحراجها. لكن منذ سنوات قليلة مضت، كانت الظروف والكلمات نفسها تنطبق على ألمانيا.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي موقعنا وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً.
بقلم / الدكتور محمد سيف الدين