في تطور استراتيجي لافت، رسَت سفينتان حربيتان إيرانيتان في ميناء ريو دي جانيرو البرازيلي، الإثنين، بإذنٍ رسمي من حكومة برازيليا، على الرغم من الضغوط الأميركية ودعوة الولايات المتحدة الأميركية، على لسان سفيرتها لدى البرازيل، إليزابيث باغلي، البرازيل إلى عدم السماح بدخول السفينتين الإيرانيتين.
البعد الأول: البرازيل تتجاوز الضغط الأميركي
هيئة ميناء ريو قالت، في بيان، إن السفينتين الحربيتين "إيريس مكران" و"إيريس دينا" وصلتا. وأعطى نائب رئيس أركان البحرية البرازيلية، الأدميرال كارلوس إدواردو هورتا أرينتز، موافقته على رسو السفينتين في ريو في الفترة الواقعة بين 26 شباط/فبراير والرابع من آذار/مارس، وفق إخطار نشرته الجريدة الرسمية البرازيلية.
يأتي ذلك بعد انتهاء جولة الرئيس البرازيلي، لولا دا سيفا، ولقائه الرئيس الأميركي، جو بايدن، في واشنطن. وبينما يسعى الأميركي لاحتواء حكومة دا سيلفا، فإن هذا الحدث يأتي في لحظة رأت أوساط سياسية أميركية أنها "استفزاز" للولايات المتحدة.
وانتشرت، في الآونة الأخيرة، ادّعاء مفاده أن البرازيل "رضخت" لضغوط الولايات المتحدة، و"رفضت" طلب إيران أن ترسو سفنها في ريو، في أواخر كانون الثاني/يناير. وهذا ما نفاه المتحدث باسم وزارة الخارجية البرازيلية، إذ قال إن ما ذكرته "رويترز" بشأن حدوث تأخير في رسو السفن الحربية الإيرانية، تحت الضغط الأميركي، "غير صحيح، ولا علاقة لواشنطن به".
غير أن الإدارة الأميركية، التي اعتادت فرض عقوبات على إيران، والتي يرفضها بدوره الرئيس البرازيلي الحالي، استاءت، بحسب الإعلام الأميركي، من الخطوة الأخيرة التي قامت بها البرازيل، وتوعّدت بـ"محاسبة" إيران، التي أعلنت عزمَها إقامةَ وجود لها في قناة بنما.
الرفض البرازيلي الرسمي الحالي، والذي عبّر عنه لولا دا سيلفا، للعقوبات على إيران، ليس جديداً، وإنما يرجع إلى زمن مضى، عندما كان لولا رئيساً لأول مرة في عام 2002، بالإضافة إلى وقوفه في وجه القرارات الأميركية، التي تُتخذ دائماً. وهذا ما جعل الولايات المتحدة الأميركية "أكثر قلقاً" بعد انتخابه في الفترة الماضية.
وجاءت مواقف لولا عكس الرئيس البرازيلي السابق، جايير بولسونارو، المدعوم من الولايات المتحدة الأميركية، والذي تتباين بشأنه الآراء داخل البيت الأبيض اليوم، كانت تصريحاته كلها تتجه نحو دعم زيادة الحصار على طهران.
لهذا السبب، يُعَدّ لولا، بالنسبة إلى واشنطن، الرجل الذي تحدى العقوبات، كما ذكرت شبكة "فوكس نيوز" الأميركية، في تقريرها بشأن السفينتين الإيرانيتين، اللتين وصلتا إلى ميناء ريو دي جانيرو، بالإضافة إلى اتخاذه خطوات "جريئة جداً"، من شأنها أن تعزز الوجود الإيراني في أميركا اللاتينية. وهذا ما "لن تسكت" عنه الإدارة الأميركية، وفق الشبكة ذاتها.
البعد الثاني: الوجود الإيراني في أميركا اللاتينية
تسعى الجمهورية الإسلامية الإيرانية لتعزيز وجودها في مناطق أميركا اللاتينية. وهذا ما تؤكده التصريحات الإيرانية، إذ قال الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، خلال استقباله وزير الخارجية الفنزويلي في طهران، سابقاً، إن بلاده تريد جعل دول أميركا اللاتينية إحدى "أولويات" علاقاتها التجارية.
ومن خلال الجولات الإيرانية الرسمية في كوبا وفنزويلا ونيكاراغوا، وغيرها من الدول اللاتينية، المتقاربة مع إيران، وفي سبيل ترسيخ مفهوم الشراكة الاستراتيجية والتعاون الواسع في مختلف المجالات بين إيران والدول اللاتينية، ووفقاً للتطورات الأخيرة، فإن رسو السفينتين الحربيتين جعل التعاون الاقتصادي القائم بين هذه الدول يصل إلى مرحلة متقدمة، حتى أصبح التعاون مع الدول اللاتينية، عسكرياً وأمنياً، إضافة نوعية وفق المسار ذاته.
من الناحية البنيوية، وفي ظل العقوبات الأميركية المفروضة على إيران، كان لا بدّ من إيجاد خطط لكسر الحصار، وتكاتف الدول التي تعاني من جرائه. لذلك، فإن اهتمام إيران بتنشيط سياستها الخارجية، بحثاً عن دور أكبر على المستويين الإقليمي والدولي، كان أمراً ضرورياً، من خلال إحداث تغييرات في توجهات السياسة الخارجية الإيرانية في اتجاه توطيد علاقاتها بدول تساعدها على كسر الحصار، سياسياً واقتصادياً وأمنياً.
وفي هذا الصدد، لا بد من التذكير بتصريح من صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، التي قالت إن عدوّتي الولايات المتحدة، فنزويلا وإيران، اللتين تأثرتا بعقوباتها، تبنيان شراكة استراتيجية توفّر للرئيس نيكولاس مادورو المحاصَر شريان حياة حيوياً، وتمنح طهران مكانة جديدة محتملة للتأثير عبر البحر الكاريبي.
ووصلت البحرية العسكرية الإيرانية إلى موانئ البرازيل، بعد إعلانها عزمَها إقامة وجود لها في قناة بنما.
وكان قائد البحرية الإيرانية، شهرام إيراني، أكد تشكيل 3 قيادات خاصة بالمحيطات، منها قيادة المحيط الهندي، وقيادة المحيط الهادئ، وقيادة المحيط الأطلسي، موضحاً أنّ "القوات البحرية الإيرانية موجودة حالياً في المحيطين الهندي والأطلسي، وأنها ستكون قريباً موجودة في المحيط الهادئ".
ويُعَدّ الوجود العسكري الإيراني في قناة بنما الدولية، بحسب التقارير الأخيرة، نجاحاً وتحوّلاً نوعيَّين لإيران في سياق مواجهة الولايات المتحدة الأميركية، ولا سيما العقوبات الاقتصادية والحصار المفروض على الشعب، وأيضاً من خلال إقامة شبكة علاقات بأميركا اللاتينية وتقويتها، على غرار كل من فنزويلا والبرازيل ونيكاراغوا.
وتُعَدّ قناة بنما أهم قناة بحرية في العالم، لكونها تصل بين محيطين، وهي بوابة ومركز رئيسان للنقل في العالم، تجارياً وعسكرياً، وتصل بين الأميركيتين الشمالية والجنوبية. وهذا ما جعل واشنطن تعرب عن غضبها من هذا التطور، وخصوصاً أنه يأتي بعد أن سبق لإيران أن أرسلت، في عدة مناسبات، ناقلات نفط وسفناً تجارية بحراسة بوارجها الحربية، عبر المحيط الأطلسي والبحر الكاريبي، إلى فنزويلا، التي تعاني، كما إيران، حصاراً أميركياً مفروضاً عليها.
البعد الثالث: مخاوف واشنطن.. وتهديداتها
سبق للولايات المتحدة الأميركية أن عدّت وصول إيران إلى المحيطات القريبة إليها استفزازاً لها، وإشارةً إلى تعاظم قدرات طهران العسكرية. تحاول واشنطن، عبر كل السبل، مواجهة تصاعد القدرات الإيرانية. لذلك، عندما وصلت السفن الإيرانية إلى فنزويلا منذ سنوات، لجأ الرئيس السابق دونالد ترامب إلى أسلوب التهديد بضرب السفن، لكنه عجز عن إعاقة حرية تحركها وصولاً إلى وجهتها.
تهديد ترامب للرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، آنذاك، كانت له نتائج عكسية على الولايات المتحدة. هذا ما خلصت إليه صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، التي أكدت أن ردود الفعل على تهديد ترامب فنزويلا بالخيار العسكري عكست وحدة بين زعماء أميركا اللاتينية، من خلال مطالبة الولايات المتحدة بعدم التدخل في شؤون المنطقة الداخلية. وهذا ما يزيد في التهديد لمصالح واشنطن.
لهذا، تفيد التحقيقات بأن الولايات المتحدة لا تملك الجرأة على مهاجمة إيران، وخصوصاً في أميركا اللاتينية، نظراً إلى ما تمثله هذه المنطقة من تهديد حقيقي لأمن الولايات المتحدة.
يشار أيضاً إلى أن واشنطن وصلت في تخوفها من الوجود الإيراني في "فناء الولايات المتحدة الخلفي"، حسب تسمية الأميركيين، في ظل التحسن الذي تشهده العلاقات الإيرانية بدول أميركا اللاتينية، إلى اتخاذ قرارات متسرعة وغير مسؤولة، بحسب مقال نشرته صحيفة "واشنطن بوست".
أمّا اليوم، فالانزعاج الأميركي من وجود السفينتين الحربيتين الإيرانيتين عند الشواطئ البرازيلية، ظهر جلياً من خلال التصريحات الأميركية خلال الساعات الأخيرة الماضية، وتحديداً عبر الإعلام الأميركي، الذي وصف المشهد بأن البرازيل "تجاهلت المخاوف الأميركية".
وأعرب عدد من القادة الأميركيين عن الغضب من الخطوة الإيرانية، إذ قال فيدانت باتيل، نائب المتحدث باسم الخارجية الأميركية: "اطلعنا على التقارير بشأن إرسال إيران سفناً حربية إلى البرازيل وقناة بنما، ونراقب الوضع، ولدينا الأدوات لمحاسبة إيران، ومنها عبر العقوبات".
وعبّر حاكم فلوريدا السابق، جيب بوش، وهو شقيق الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش، في مقال نشره في "واشنطن بوست"، عن قلقه من الخطوة الإيرانية، متهماً بنما بـ"مساعدة طهران على الالتفاف على العقوبات الأميركية والغربية" المفروضة عليها، بذريعة ملفها النووي. وشدّد على أنه "من دون دعم بنما، فإن النظام الإسلامي في إيران سيواجه عقبات كبيرة في تسويق نفطه وغازه في العالم".
تهديدات أميركية علنية، يختبئ خلفها "خوف" من التحركات الإيرانية بالتعاون مع دول أميركا اللاتينية. وبناءً على ذلك، فإن مشكلة واشنطن لم تعد محصورة في حكومات معظم دول أميركا اللاتينية المواجِهة لسياستها، بل في قدرة تلك الحكومات على إنشاء مسار من التعاون مع دول مثل إيران، بسبب ما تشكله الأخيرة من تهديد للنفوذ الأميركي، والذي بات يخرج من دائرة المواجهة في غربي آسيا إلى ما هو أوسع.
لذا، فإن رسوّ السفن الإيرانية في البرزايل أخيراً، بعد عبورها إلى بنما، لا ينفصل عن تموضع البرازيل وإيران والولايات المتحدة في المشهد العالمي. ولكل دولة خياراتها، وتوجهاتها السياسية. وهذا الأمر يعبّر عنه أولاً تخطي البرزايل للضغوط الأميركية، وتحدي إيران للحصار المفروض ثانياً، ويعبر عنه ثالثاً الانزعاج الأميركي، الذي لم يتخطّ حدود "الكلام".