وأنه بات من أحاديث الماضي، بعد أن عملت وسائل الاتصال وتكنولوجيا المعلوماتية والاقتصاد العابر للحدود، على تحويل العالم الى بيت واحد، وليس مجرد قرية واحدة.
وهنا أقول؛ إن التفاعل الموضوعي بين الأفكار المتنوعة، والحوار الندي والمتوازن بين الثقافات، والمثاقفة الطبيعية وغير القسرية والتي لا تحمل أهدافاً استعمارية، هي مفاهيم وأمور مقبولة، بل ضرورية، لأنها هدف إسلامي أصيل بالأساس، لأن الإسلام حضّ على الاستفادة من نتاجات الآخر الفكرية والعلمية والثقافية التي لاتتعارض مع النص المقدس ((الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه))، أو كما يقول رسول الله: ((أطلبوا العلم ولو كان في الصين)).
كما حض على التعارف مع الشعوب والأقوام والتحاور معها ((يا أيّها الناس إِنّا خلقناكم من ذكر وأُنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إنّ أكرَمكم عند اللَّه أتقاكم))، وجعل التعارف علّة التنوع القومي والعرقي والديني، بهدف التوصل الى كلمة سواء (( قُل يا أَهل الكتاب تعالَوا إِلى كلمة سَواءٍ بيننا وبينكم ألّا نعبد إلّا اللَّه ولا نشرك به شيئاً وَلا يتّخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون اللَّه)).
كما لا يعني الحديث عن خطاب التغريب والغزو الثقافي الغربي؛ أن الغرب شر مطلق في أفكاره ومناهجه وسلوكياته ونتاجاته، بل إن القصد هو الجانب العدواني المتمثل بالغرب المستكبر، الذي يعمل منذ ثلاثة قرون على اغتيال هوية المسلمين واستبدالها بهوية مشوهة، واحتلال البلدان المسلمة والمستضعفة، ونهب ثرواتها، واستعباد شعوبها، وليس الغرب بالمطلق، وليست الشعوب الغربية.
وهنا ينبغي الفرز بين السلبي والإيجابي والمقبول والمرفوض والسيء والحسن والمفيد والضار من الفكر الغربي والسلوك الغربي، وهو المراد من مفردة ((أحسنه)) في النص القرآني ((((الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه)). وبالتالي؛ فإن قواعد الحوار الحضاري والمثاقفة والتفاعل الفكري تتعارض كلياً مع ما يقوم به الغرب من عمل ميداني هجومي عدواني في الجانب الثقافي والفكري والسلوكي، ينطوي على أهداف استعمارية وهيمنة سياسية واقتصادية وثقافية ومخابراتية، بهدف اغتيال الهوية الإسلامية وتغريب مجتمعات المسلمين.
ولعل الفرز بين نتاجات الغرب وسلوكياته، وفق قواعد الوعي العميق المذكورة، هو أحد أهم عناصر القدرة على مواجهة الغزو الثقافي والرد على خطاب التغريب.
وبرغم سطوة أدوات الغرب في غزوه وفاعليتها وتطورها؛ أن مواجهة الغزو وصده، وتحصين الفرد والمجتمع، وحماية الهوية الإسلامية، أمور مستحيلة أو غير ممكنة، بل على العكس، هي ممكنة جداً، فيما لو توافرت الإرادة والخبرة والتخطيط والأدوات الفاعلة والعمل المتواصل، عند الأفراد والجماعات والمؤسسات ذات العلاقة، لأن مجتمعات المسلمين تؤمن أساساً بهويتها وتعتز بها، وتتقبل فكرة التحصين الذاتي والتمسك بالهوية، وهذه عوامل داعمة مهمة تسهل عملية المواجهة، بينما لايحظى الغازي الغربي وعملاؤه السياسيون والثقافيون بهذه الميزة الأساسية المهمة، لكنهم يمتلكون ــ في المقابل ــ الأدوات الفاعلة والصوت العالي والسلطة والمال.
علي المؤمن