فإنَّ الإنسان الَّذي يعيش الوفاء بكلِّ عهده، لا بدَّ أنْ يعيش الصِّدق، لأنهما يولدان من قاعدة واحدة، لأنَّ الإنسان الوفيّ هو الَّذي يتحرَّك وفاؤه لمن يفي له من موقع صدقه في علاقته به.
"ولا أعلم جُنَّة"، أي درعاً يحمي الإنسان، "أوقى منه"، أشدّ وقايةً منه، "ولا يغدر من علم كيف المرجع"، لا يمكن أن يغدر بالإنسان الَّذي حمَّله الله تعالى مسؤوليَّته، أو بأيّ إنسان.
"ولقد أصبحنا في زمان قد اتَّخذ أكثر أهله الغدر كَيْساً"، يعني الإنسان الَّذي يغدر ويلعب على أكثر من حبل -ـ كما يقولون - وهم يعتبرونه "شاطراً"، ولذلك كانوا يقولون - ولا يزال بعض الباحثين يقول - إنَّ الإمام عليَّاً لا معرفة له بالسياسة، وإنَّ معاوية هو الذي يعرف السياسة جيِّداً، ويعرف كيف يلعب على أكثر من حبل، في اجتذاب النَّاس إليه، وفي المحافظة على حكمه، تماماً كما لو كان الحكم هو الهدف، وليس وسيلة للوصول إلى الهدف.
كان الحكم عند عليّ (ع) وسيلةً لإقامة الحقّ، وكان (ع) يستمع إلى بعض كلمات هؤلاء الَّذين يعتبرون أنَّ معاوية يمثِّل الدَّهاء السياسي، لأنَّه يعرف وسائل الحيلة.
"ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة"، وكان الإمام عليّ (ع) يقول: "والله، ما معاوية بأدهى منِّي"، فأنا أعرف كيف تنطلق الحقيقة عندي من أعماقها لأبرزها إلى النَّاس، فأنا عليٌّ الفكر، وأنا أعرف كلَّ مواقع الدهاء والحيلة، "ولكنَّه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر، لكنت من أدهى الناس"1، فمعاوية لا يملك الفكر السياسي الذي أملكه، ولا يعرف مصادر الأمور ومواردها كما أعرف.
ولكنّه (ع) يؤكِّد خطَّه في الفقرة الثانية: "ما لهم قاتلهم الله! قد يرى الحوَّل القُلَّب"، والحوّل هو الَّذي يحوّل الأمور من موقع إلى آخر، والقلَّب هو الذي يعرف كيف يقلبها، "وجه الحيلة" أمامه، "ودونها حاجز من أمر الله ونهيه"، أي أنَّه يستطيع أن يرى وجه الحيلة، لكن أخلاقه ومبادئه وأمر الله تعالى ونهيه يمنعونه من ذلك، "فيدعها رأي العين"، فهو يراها بأمّ عينه، "وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين"2، أي يأخذ بها من لا يراعي المبادئ والأخلاق وأحكام الله.
* من كتاب "النَّدوة"، ج 14.
السيد محمد حسين فضل الله
------------------------------
[1]نهج البلاغة، ج2، ص 180.