هذا هو السؤال الثَّالث الذي يطرح نفسه علينا في محاولتنا لمعرفة الموقف الإسلامي من النقد - بمعنى العيب والثّلم والتَّجريح - في حالة حصوله في غيبة الإنسان، هذا الَّذي تصطلح عليه الأحاديث المأثورة وكلمات الفقهاء باسم الغيبة.
ونحاول استحداث كلمة أخرى تنسجم مع حديثنا هذا، لنصطلح عليه باسم "النَّقد الغيابي"، وسواء جرينا على كلمة الغيبة، أو "النقد الغيابي"، فإنَّ الحكم واحد، وهو الرفض الحاسم له في القرآن الكريم والسُنّة الشريفة.
ففي القرآن الكريم، تواجهنا الآية التي عرضت للغيبة وتحريمها بأسلوب يتحرَّك بطريقة رائعة، ليثير في النّفس القرف والاشمئزاز من الجوِّ النفسي الَّذي حاولت الآية أن تضعه فيه.
قال تعالى: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ...}[الحجرات: 12].
تلك هي الصورة الحقيقيَّة للغيبة؛ أن يموت أخوك، وتقف أنتَ أمام جنازته، والسكّين في يدك تعمل في كلِّ جانب من جوانب جسمه، فتقطع جزءاً من هنا، وجزءاً من هناك، ثمّ تبدأ عمليَّة التهام قطع اللَّحم الميتة، لحم أخيك، في نهم الجائع ولذَّته.
هل رأيت أبشع من هذه الصَّورة وأفظع؟ وهل عرفت تعبيراً عن الوحشيَّة والقساوة أوضح من هذا الإنسان الذي يتحرّك داخل إطارها؟
فإذا ارتفع عندك الإحساس بالفظاعة، والشعور بالبشاعة إلى القمّة، فتعالَ إلى الصورة المماثلة، ثمّ انظر؛ هل تحسّ معها بالإحساس نفسه، أو تشعر بالشعور ذاته؟!
إنّها صورة أخيك الغائب عنك، وصورتك ـــ أنت ـــ عندما تقف أمام حياته بكلِّ ما فيها من عيوب ونقائص وأخطاء، وتبدأ العملية ذاتها في اتّجاهٍ آخر.
فالجثّة هي كرامته وسمعته وشخصيَّته، والسّكّين هنا هي كلماتك التي تقطّع أوصاله تماماً كالسكّين.. وتنتهي القصّة هنا، كما انتهت هناك، أمام نهم الجائع ولذّة المسعور.
إنَّ الصّورة هي الصّورة مع اختلاف الخطوط والألوان، فكرامة الإنسان كجسده لها الحرمة نفسها، والحقوق نفسها، وبهذا يلتقي نهش الكرامة بنشر العيوب، بنهش الجسد، بالتهام قطع اللَّحم الميّت.
إنَّ الصّورة هي الصّورة، ولكن لماذا لا نشعر بالبشاعة مع هذه كما نشعر ببشاعة تلك؟
ربّما يرجع ذلك إلى أنَّنا نتأثَّر عادةً بالجانب الحيّ المحسوس من الحياة، أكثر ممّا نتأثَّر بالجوانب المعنويَّة، ولذا اعتبرت الصورة المحسوسة وسيلةً من وسائل الإيضاح للصّورة غير المرئيَّة في الحياة.
أمّا في الحديث الشَّريف، فنجد في أحاديث السيرة النبويَّة، أنَّ الرسول الأعظم (ص) قال: "الغيبة أسرع في دين الرَّجل المسلم من الآكلة في جوفه"1.
وفي حديثٍ آخر عنه، في وصيَّته المأثورة لأبي ذرّ (رض): "يا أبا ذرّ، إيَّاك والغيبة، فإنَّ الغيبة أشدُّ من الزِّنا. قلت: يا رسول الله، ولم ذلك، بأبي أنت وأمّي؟ قال: لأنَّ الرجل يزني فيتوب إلى الله فيتوب الله عليه، والغيبة لا تغفر حتّى يغفرها صاحبها. يا أبا ذرَّ: سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه من معاصي الله..."2.
* من كتاب "مفاهيم إسلاميَّة عامَّة".
السيد محمد حسين فضل الله
----------------------------------
[1]الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 357. والآكلة: داء في العضو يأكل منه.
[2]بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج74، ص 91.