إنَّ الإمام في هذه الكلمة الرائدة يؤكِّد عنصر التجربة، تلك التي تعيش في حياة الإنسان فيما يمارسه في حركته في الحياة، ومن خلال ما يواجهه، مما يبصره من المُبصَرات، أو مما يسمعه من المسموعات، أو مما يلمسه من الملموسات، أو مما يشمّه من المشمومات، و ما يتحرك فيه في كلِّ ما يتّصل بالحس، سواءٌ كان بسيطاً، كما في مفردات شروق الشَّمس والقمر، أو كان مركّباً، حيث يتحرّك الحسّ في مسألة تأخذ عدّة مفردات من الحسّ، مما يقام فيه بعمليَّة تجريبيَّة، تستنتج منها نتائج للحياة.
فالتجربة تعني أنْ تعيش في ممارساتك في الحياة، سواء في حياتك الفرديَّة، في ما تمارسه أو مما تقوم به، أو في حياتك الاجتماعيَّة، في ما تتحرك به في ممارساتك مع الآخرين، سواء على مستوى المعاملات، أو على مستوى العلاقات، أو على مستوى المواقع أو المواقف، مما يعيش فيه الآخرون، لتستنتج من هذا فكرة، ومن ذاك فكرة، لتعرف ما هي صفة هذه المعاملة؛ هل هي رابحة أم خاسرة، لتنطلق منها إلى ما يماثلها من المعاملات، وهكذا في العلاقات، سواء كانت هذه العلاقة زوجيَّة أو علاقة أبويَّة أو علاقة سياسيَّة أو اقتصادية أو أمنية أو ما إلى ذلك.. إنَّ هذه التجربة الذاتيَّة تتحرَّك في هذه الممارسات المركَّبة التي يقوم بها الإنسان في حياته الفردية والاجتماعية ليأخذ منها الفكرة، لأنَّ التجربة هي أحد مصادر الفكر.
[وقد] كان الفلاسفة الأوَّلون يعتبرون أنَّ المصدر الوحيد في المعرفة هو التأمّل والتفكّر، ولكنَّ المسلمين من خلال ما جاء به القرآن الكريم، اعتبروا التجربة مصدراً من مصادر المعرفة، وقالوا إنَّ التجربة يمكن أن تتزاوج مع التأمل، لأنّ التجربة وحدها تعطيك الفكرة في الدائرة الخاصَّة، بينما التأمَّل في داخل التجربة ودراسة كلّ خصوصياتها، يجعل التجربة تمنحك الفكرة التي تمتدُّ في جميع مواقع الحياة في الظروف المماثلة ولذا يقول المفكِّرون إنَّ التجربة وحدها لا تعطينا قانوناً، لأنها محدودة بحدود خاصَّة.
فلو أنَّك جرّبت دواءً واحداً، فإنَّك لا تستطيع من خلال ذاتيّة التجربة أن تقول إن هذا الدواء ينفع في كل الحالات المماثلة لهذه الحالة، إلا من خلال قاعدة فلسفيَّة، وهي أنّ (حكم الأمثال في ما يجوز وفي ما لا يجوز واحد)، يعني في ما يمكن وفي ما لا يمكن واحد، فإننا عندما ندرس هذه التجربة المحدودة، ونلاحظ عناصرها، ونجد أن التجارب الأخرى أو المواقع الأخرى تتضمَّن العناصر نفسها، فنقول إنّ من الطبيعي أنّ هذا الدواء استطاع أنْ يشفي هذا المرض من خلال العناصر التي يشتمل عليها كلّ من المرض والدواء، فكلّ ما كان من هذا القبيل في عناصره، يمكنه أن يشكل تجربة مماثلة، فإنّ التجربة إنما تصنع فكرةً أو قانوناً من خلال تزاوجها مع القواعد الفكرية التي انطلقت من خلال التأمل، فلا تنفصل التجربة عن الفكر، كما أن التأمّل الذي يعيشه الفكر قد ينطلق من خلال التجربة في بعض الحالات.
وهذا ما أعطى الحركة الحضارية الإسلاميَّة امتدادها في طول التاريخ، حيث استطاع المسلمون من خلالها أن ينتجوا في علم الطبّ والكيمياء، وفي كثير من العلوم والمعارف، وقد استفاد الغرب، عندما ارتبط بالمسلمين في (الأندلس)، حيث انتشرت علوم أمثال (ابن سينا) و(ابن النفيس) و(جابر بن حيان) وغيرهم، فنقل التجربة - في دراساته وتجاربه -كأساس من أسس المعرفة، وانطلق الغرب في كل اكتشافاته، على جميع المستويات، وفي كل الآفاق التي فتحها، من خلال تأكيد التجربة التي يتابعها، ولو لقيت فشلاً في بعض مواقعها، باعتبار أنّ الفشل في التجربة لا يعني فشل الفكرة التي تريد أنْ تستوحيها من خلال التجربة، لأنّ من الممكن أنْ تكون الظروف التي أحاطت بالتجربة هي التي أدّت إلى هذا الفشل.. وهذا ما أكّدناه في بعض أبحاثنا التي نُشرت قبل أكثر من أربعين سنة، تحت عنوان (التجربة أبداً)، وقلنا إنَّ فشل ألف تجربة لا يعني فشل الفكرة.
والإسلام لم يكتف في مسألة حركية التجربة بالتجارب الذاتيَّة للإنسان، بل إنه أراد له أنْ يعيش تجارب الآخرين، وهو ما نقرأه في القرآن الكريم عندما يطلب من الناس أنْ يعتبروا وأن يسيروا في بلاد الآخرين، وأنْ يدرسوا كيف كانت حياتهم وكيف تطوَّرت في عنصر السلب هنا وعنصر الإيجاب هناك، لأنَّ تجارب الآخرين تعطي - أيضاً - الفكرة للإنسان، تماماً كما تعطيه تجربته الخاصَّة، ولكن بعد دراسة دقيقة لهذه التَّجارب التي عاشها الناس في القرون السابقة وفي العصور المختلفة.
فالإمام (ع) يقول: "العقل حفظ التجارب"، لأنه يريد لك أنْ تعمل على أن يكبر عقلك وينمو ويتطوّر، وأن تحفظ التجارب التي عشتها في كلِّ تاريخك، وفي كلِّ مواقع حياتك، فلا تهملها ولا تنساها ولا تغفلها، وحاول - أيضاً - أن تحفظ التجارب التي عاشها الآخرون، فإذا حفظت كلّ ذلك، استطعت أنْ تأخذ من كلِّ هذه التجارب علماً جديداً وفكراً جديداً وتطوّراً جديداً، لأنَّ العقل ينفتح على كلِّ ما يلقى إليه من فكرٍ هنا وهناك، فيولّدُ من الفكر فكراً، وينتج الفكر من الواقع في هذا المجال.
* من كتاب "النَّدوة"، ج 12.
السيد محمد حسين فضل الله