فقد اعتبر الحديث أنَّ المؤمن مرآة أخيه. وفي الوقت الذي يدعو المؤمن إلى أن يقوم بدور المرآة الداخليَّة تجاه عيوب أخيه الذاتيَّة، كما تقوم المرآة بكشف العيوب الخارجيّة، كذلك يوحي إلى المؤمن الآخر بأن يعتبر إخوانه مرآة له، ويتعامل مع نصائحهم وتوجيهاتهم كما يتعامل مع المرآة، فيدعوهم إلى نقد صفاته وأعماله، كما يدعو المرآة إلى كشف أخطاء نظافته وأناقته.
ولا يقتصر هذا الأسلوب على الحديث الشَّريف، بل يتعدّاه إلى الدعاء الذي يدعو به الإنسان ربَّه، فنجد في دعاء "مكارم الأخلاق" الفقرة التالية: "وَوَفِّقنِي لِطَاعَةِ مَن سَدَّدَنِي وَمُتَابَعَةِ مَن أَرشَدَنِي".
فهي تعتبر السَّير على هدى النَّقد في عملية التغيير الداخلي والإصلاح العملي، حاجة دينيّة وإنسانيّة تحتاج إلى مزيد من توفيق الله ورعايته، ما يجعل الإنسان يحسّ بالرغبة الروحيَّة إلى أن يطلب ذلك من ربّه في خشوع العبادة وروحانيّة الدّعاء.
إنّ الإسلام يحاول أن يوجِّه النَّاقد والمنقود إلى أن يواجها عمليَّة النقد بروح واعية مخلصة، ينطلق معها النَّاقد ليكتشف أخطاء الآخر بوعي ومحبَّة، وينسجم معها المنقود ليشعر بالامتنان لذلك، وليبدأ عمليَّة التَّغيير على هذا الأساس.
وأمّا الحالة التي يتَّجه فيها النقد إلى التحقير والإيذاء، فتتحوَّل المواجهة إلى أسلوبٍ حاقد يستهدف التحطيم فحسب، أمّا هذه الحالة، فنجد التشريع الإسلامي يرفضها رفضاً قاطعاً، فلم يعط الإنسان هذا الحقّ، ولم يمنحه هذه الحريّة.
ونجد الإشارة إلى ذلك في حديث الإمام محمّد الباقر (ع): "أَقْرَبَ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ إِلَى الْكُفْرِ، أَنْ يُوَاخِيَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ عَلَى الدِّينِ، فَيُحْصِيَ عَلَيْهِ عَثَرَاتِهِ وَزَلاتِهِ لِيُعَنِّفَهُ بِهَا يَوْماً مَا"2، وفي حديث الإمام جعفر الصادق (ع): "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ اَلْعَبْدُ إِلَى اَلْكُفْرِ، أَنْ يَكُونَ اَلرَّجُلُ مُؤَاخِياً للرَّجُلِ عَلَى اَلدِّينِ، ثُمَّ يَحْفَظَ زَلاَّتِهِ وَعَثَرَاتِهِ لِيُعَنِّفَهُ بِهَا يَوْماً مَا"3، اللّذين اعتبرا إحصاء الإنسان زلّات أخيه المؤمن بداعي التَّعيير والتعنيف والإيذاء، من أقرب الأشياء إلى الكفر، ومن أبعد الأمور عن الله.
وقد نلمح الإشارة إلى ذلك في جميع الأحاديث التي تشجب إيذاء المؤمن وتحقيره وإذلاله بأيّ أسلوبٍ من الأساليب.
وربّما نتعرَّف ذلك في حديث الإمام جعفر الصادق (ع): "مَنْ أَنَّبَ مؤمناً، أنَّبَه الله عزَّ وجلَّ في الدُّنيا والآخرة"4.
وفي حديثٍ آخر عنه: "مَنْ عَيَّرَ مؤمناً بذنبٍ، لم يمت حتّى يرتكبه"5.
وقد يكون السرّ في هذا الرَّفض وهذا التَّشديد، هو تركيز الإسلام على بناء العلاقات الإنسانيَّة بين المؤمنين على أساس احترام كرامة الإنسان، لأنَّ ذلك هو الَّذي يخلق عنده الشعور بإنسانيّته، وبالتالي، يساهم في حفظ قيمة تلك العلاقات وتنميتها واستمرارها وحيويّتها ودورها الإيجابي في خلق المجتمع الإسلامي الصَّحيح الذي يرتكز على قاعدة متينة من المعرفة والمحبَّة والاحترام المتبادل ورعاية حقوق الجميع.
* من كتاب "مفاهيم إسلاميَّة عامَّة".
السيد محمد حسين فضل الله
-------------------------------
[1]بحار الأنوار، ج71، ص 270.
[2]بحار الأنوار، ج72، ص 219.
[3]مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج9، ص 107.
[4]الكافي، الشيخ الكليني، ج10، ص 6.
[5]الكافي، ج2، ص 356.