أحد مؤشرات هذا التحول الحساس يمكن ردّه إلى دلالات ومضمون ما أشارت إليه مؤخراً صحيفة معاريف الإسرائيلية حول كلام صادر عن مجموعة صهيوينة تدعى "نغادر البلاد سوية"، وأحد رؤسائها المدعو ينيف غورليك، الذي كان ناشطاً أساسياً في التظاهرات ضد نتنياهو، ويعتبر من الناشطين الاجتماعيين البارزين ضد فرض الدين، بعد أن حددت هدفها الأول وهو جمع حوالي عشرة آلاف إسرائيلي ومساعدتهم على المغادرة إلى الولايات المتحدة الأميريكية.
مؤشر آخر على هذا التحول أشارت إليه الصحيفة الاسرائيلية، وهو أن ناشطًا آخر يدعى مردخاي موتي كاهانا، وهو رجل أعمال إسرائيلي أميركي غرّد قبل أيام قليلة عبر "تويتر قائلاً: بعد سنوات من تهريب اليهود من مناطق الحرب في اليمن وأفغانستان وسوريا وأوكرانيا إلى إسرائيل"، قررتُ مساعدة الإسرائيليين على المغادرة إلى الولايات المتحدة، ودائماً حسب الصحيفة المذكورة.
وتابعت الصحيفة الاضاءة على الموضوع وبشكل حساس ومثير للاهتمام، بالقول إن الناشط كاهانا تلقّى عشرات الطلبات من الصهاينة للحصول على مساعدة في مجال الهجرة، خاصة من أولئك الذين يديرون شركات تكنولوجيا صغيرة يرغبون في نقل مكاتبهم إلى الولايات المتحدة وذلك على أثر ما كتبه بأنه مع حكومة كهذه في "اسرائيل"، يجب على الحكومة الأميركية أن تسمح لكل إسرائيلي يمتلك شركة أو مهنة مطلوبة في الولايات المتحدة ــ مثل أطباء أو طيارين ــ أن يهاجر الى الولايات المتحدة"، مضيفة "إن كهانا يعتبر أن الشعب اليهودي لن يعرف أبداً كيف يحكم بلاده، ونقلت عنه قوله تم تدمير الهيكل الثاني بسبب الكراهية التي تشبه ما يحدث في "اسرائيل" عام 2022"، حسب تعبيره.
طبعًا، لا يمكن الاستناد فقط إلى ما صدر عن معاريف الاسرائيلية، حول كلام بعض الناشطين الصهاينة مثل ينيف غورليك أو مثل مردخاي موتي كاهانا، واعتبار أن هذا التحول قد سلك، وأننا سوف نشهد قوافل الصهاينة تسابق بعضها وهي تغادر فلسطين المحتلة باتجاه دول ومناطق أخرى من العالم وخاصة باتجاه اميركا، ولكن هناك الكثير من المعطيات الاستراتيجية التي تحيط بمسار الوضع الاسرائيلي المحتل في فلسطين بشكل عام، تقوي استنتاجات بعض المتابعين والمحللين بأن هناك بوادر جدية لوجود تحول ما بدأ يطال أسس ومفاهيم "الهجرة" اليهودية إلى فلسطين المحتلة.
اذا اعتبرنا أن هناك الكثير من المقومات العضوية لدى الكيان الصهيوني ساهمت وتساهم في حماية وتثبيت احتلاله لفلسطين المحتلة ولبعض الأراضي العربية الأخرى في لبنان وسوريا، ومنها الاقتصادية والسياسية والاعلامية والعسكرية، بالإضافة طبعاً للدعم الدولي الواسع لهذا الاحتلال من قبل دول كبرى مباشرة أو من قبل مؤسسات المجتمع الدولي عبر تغاضيها عنه، يبقى للبعد العسكري الذي تملكه "إسرائيل"، التأثير الأكبر في تثبيت احتلالها حيث لقدراتها العسكرية والتي تعتبر من الأكثر تطورًا عالميًا، الدور الأكبر في حماية الكيان.
انطلاقًا من هنا، يمكن أن نستنتج بأن تصدع القدرة العسكرية لكيان الاحتلال، سيكون مفتاحاً رئيساً لتصدع قدرته على الثبات والصمود، وبالتالي سيكون هناك أمل أو امكانية بزعزعة تماسك الكيان، وبأن يشهد تحولاً في أسس ومفاهيم الهجرة اليهودية الى فلسطين المحتلة لتصبح معاكسة.. فهل وصلت "إسرائيل" اليوم الى هذه المرحلة؟ أو هل بدا مسار وصول "إسرائيل" إلى مرحلة التصدع العسكري؟
لا شك أن "إسرائيل" مرت مؤخراً بأوضاع سلبية مختلفة، بينت وجود كثير من المعطيات التي تتناول تعاظم قلقها وخوفها - بكافة اتجاهاتها السياسية والشعبية والعسكرية - حول مصيرها ككيان محتل، ولكن، اذا تركنا كل تلك المعطيات جانباً وخاصة الموقف الاسرائيلي من تعاظم قدرات حزب الله، وما يمكن أن يكون لها من تأثيرات مفصلية عند أية مواجهة، وتطرقنا فقط إلى ما تعيشه "اسرائيل" اليوم من قلق مباشر على خلفية ما يجري من أحداث دولية، أو على خلفية ما يجري في الضفة الغربية لناحية المواجهة المتواصلة والاستثنائية بينها وبين الفلسطينيين بمختلف توجهاتهم وارتباطاتهم الحزبية أو الشعبية، يمكن الإشارة إلى التالي:
بمواجهة الانتفاضة الاستثنائية في الضفة الغربية، أصبح واضحًا بأن "اسرائيل" اقتربت من اعلان فشلها في السيطرة على هذه المواجهة - الانتفاضة، ويبدو أن تأخير تشكيل حكومة العدو التي نجحت أساساً في الانتخابات الأخيرة على خلفية التشدد ضد الفلسطينيين، مردّه إلى خوف نتنياهو من تداعيات وخطورة سلوك مسار التشدد في تعيين وزراء الأمن والحرب، الأمر الذي يبدو أنه اقتنع بعدم امكانية نجاحه.
لناحية الأحداث الدولية، يكفي فقط ما تحدّثت عنه وسائل إعلام إسرائيلية، حول القلق الذي تعيشه دوائر الاستخبارات العسكرية في كيان الاحتلال بشأن التعاون الروسي الإيراني في المجالين العسكري والأمني، وما نقلته هذه الوسائل الاعلامية عن تقارير لأجهزة الاستخبارات تحدثت عن اتفاق ثنائي لتصنيع مئات الطائرات العسكرية بدون طيار في موسكو، وتصدير منظومات دفاع جوي متطورة روسية لإيران، وما قاله حول ذلك معلق الشؤون الخارجية في القناة 13 الإسرائيلية نداف أيال بإنّ ما يقلق "إسرائيل" ليس فقط إمكانية الإنتاج الصناعي للطائرات المسيّرة، بالرغم من أنّ نتائج هكذا خطوة يمكن أن تكون قاسيةً بالنسبة لـ"اسرائيل"، لكن أيضاً المقلق هو نقل منظومات دفاعية روسية، يمكن أن تصعّب بشكل كبير على سلاح الجو الإسرائيلي مهاجمة أهداف داخل إيران، إذا ما حصل ذلك.
من هنا، يمكن القول وبكل موضوعية إن تأثيرات وتداعيات الملفّين على "اسرائيل"، ملف التحالف العسكري الايراني - الروسي من جهة، وملف فشل أجهزة العدو في مواجهة انتفاضة الضفة الغربية والسيطرة عليها من جهة أخرى، ستكون مفصلية في وصول أو في عدم وصول "إسرائيل" إلى مستوى التصدّع في موقفها العسكري، والتي على أساسها سيتأكد حصول أو عدم حصول هذا التحوّل الجدي في أسس ومفاهيم الهجرة اليهودية إلى فلسطين المحتلة لتصبح معاكسة.