وتواجه كافة دول القارّة الآن معالم ركود اقتصادي لم تشهده منذ أيّام الحرب العالميّة الثانية (1939 – 1945) ويهدد بالمكوث لسنوات عدة. ولعل متابعة سريعة لنشرات الأخبار وبرامج الفضائيّات في أوروبا تكشف عن شبح يقبع في خلفيّة كل خبر وكل نقاش حول الأوضاع السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة. إنّه شبح التضخّم، حيث ارتفعت أسعار السلع والخدمات بشكل ملحوظ وبتسارع يخطف الأنفاس، فيما تجمدت الأجور تقريباً عند مستوياتها منذ الأزمة الماليّة العالميّة في 2008 على نحو يتسبب في فجوات دخل لا يمكن تغطيتها من قبل أكثريّة المواطنين.
لقد اندفعت دول أوروبا دون تبصّر لدعم العقوبات على روسيا وفق الخطط الأميركيّة لمواجهة غزو موسكو العسكريّ لأوكرانيا بالحصار الاقتصادي. وبعد جولات متعاقبة من تلك العقوبات، وحظر شراء النفط، وتقليص مشتريات الغاز إلى الحد الأدنى، تبيّن أنّ الروس نجحوا في امتصاص الصدمة ونقلوا معظم أسواق غازهم ونفطهم من الغرب إلى الشرق، فلم يخسروا حجم الصادرات بل ربحوا بالمحصلة لأن اضطراب الأسواق الذي أثارته العقوبات الغربية تسبّب في ارتفاعات قياسيّة لناحية أسعار الطاقة، في الوقت الذي انتهت الشعوب الأوروبيّة إلى تحمّل تضاعف فواتير الكهرباء والتدفئة والمحروقات مرّات عدّة وهو أمر مسّ بكل منزل وبكل مصلحة عمل على حد سواء، ودفع بالرئيس الفرنسي إلى الجأر بالشكوى علناً بعدما وصل سعر فاتورة الغاز الذي تشتريه بلاده من الولايات المتحدة إلى أربعة أضعاف السعر الذي كانت تدفعه لشراء الغاز الروسيّ.
ومما يفاقم الأمور الآن أن الأميركيين تبنوا تشريعات حمائيّة تمنح الشركات المحليّة أو تلك التي تستثمر في الولايات المتحدة إعانات وتخفيضات ضريبية ملموسة ستجعل من أوروبا خارج المنافسة العالميّة في عدّة قطاعات اقتصاديّة، وستتسبب بإغلاق العديد من المصانع وتسريح ملايين العمّال في كل القارة العجوز.
ويحدث هذا كلّه بينما يفترض بالدول الأوروبيّة تحمّل فاتورة دعم أوكرانيا عسكرياً ومالياً – وقيمتها وفق التقديرات حوالي عشرة مليارات دولار شهريّاً -، وأيضاً الاصطفاف وراء الولايات المتحدة في حربها الاقتصادية على الصين بينما الأخيرة هي بالفعل الشريك التجاري الوحيد الذي يمكن أن ينقذ أوروبا من أزمتها الخانقة التي مشت إليها حكومات القارة بعيون مفتوحة.
فقر وجوع ودعارة
بالتأكيد فإن للأوربيين الحق بالقلق من الغزو العسكريّ لأوكرانيا بغض النظر عن مبرراته سواء كانت أحلاماً توسعيّة للقيصر الروسيّ أو استفزازاً أميركياً غير مبرر من خلال جلب حدود الناتو (حلف شمال الأطلسي) إلى بوابة روسيا، لكن الجليّ أن الاستجابة الأوروبيّة كانت قصيرة النظر، وأقرب إلى إطلاق النّار على قدميها، وستكون لها ذيول طويلة تمس حياة الفئات الأقل حظاً من سكان القارة فيما تغرق أقليّة من القطط السمان، لا سيّما مُلّاك صناعات الطاقة والبنوك والسلاح، في مدّ متصاعد من بحر الأرباح المضاعفة التي جلبتها الحرب.
التكلفة الاجتماعيّة للحرب على الأوروبيين: المزيد من الفقر
تشير تقارير للأمم المتحدة معنيّة بحقوق الإنسان أن نسب أعداد سكان دول أوروبيّة كبرى مثل بريطانيا وفرنسا مثلاً التي تعيش في الفقر (الحد الأدنى للعيش) أو الفقر المدقع (دون الحد الحد الأدنى للعيش) تزايدت بشكل حاد منذ بدء الأعمال العسكريّة بأوكرانيا في فبراير الماضي، توازياً مع ارتفاعات ملحوظة في ثروات القلّة المسرفة الغنى، خاصة داخل المدن الكبرى مثل لندن وباريس وعلى حساب الأطراف.
ووفق إحصائيّات متقاطعة فإن ربع البريطانيين على الأقل – أي حوالي 15 مليوناً – يمكن تصنيفهم بالفقراء، فيما تعترف فرنسا بوجود خمسة ملايين شخص يعيشون تحت خط الفقر فضلا عما لا يقل عن عدّة مئات من آلاف المشردين فاقدي المأوَى في البلدين. ويمكن الزّعم وفق أرقام نشرتها منظمات إنسانية وحقوقيّة بأن حوالي خمسة ملايين طفل بريطانيّ من عائلات فقيرة يعيشون على وجبة واحدة في اليوم، لدرجة أن منظمة الأمم المتحدة لرعاية الأطفال (اليونيسيف) اضطرت لتقريع حكومة المملكة المتحدة بهذا الخصوص في حادثة نادرة بشأن دولة تنتمي إلى مجموعة الاقتصادات السبع الكبرى.
وبالطبع فإن ظلال الفقر هذه امتدت للطبقات الوسطى التي تراجعت القيمة الحقيقية لمداخيلها بشكل مضطرد، وأصبحت بالكاد قادرة على شراء الأساسيات وتسديد فواتير الخدمات العامة. وتشير أرقام شركات تجارة التجزئة البريطانيّة الأحدث إلى تراجع حاد بمعدل يصل إلى النصف أحياناً في مبيعات الماركات الفاخرة، فيما هناك هجرة واضحة من محلات التجزئة الراقية والكبرى إلى السلاسل التي تبيع الأصناف الرخيصة أو المعروضة بخصومات.
ومما يضاعف من آثار الأزمة الناشئة عن الحرب الأوكرانيّة أنّها أتت بعد عقد ميّت اقتصادياً بسبب سياسات التقشف التي تبنتها الحكومات الأوروبيّة بعد انهيار 2008 ، ولاحقاً سنوات كوفيد 19 العجاف، ولذلك فإن الاجور الحقيقيّة في بريطانيا أقل منها في سنوات الاضطرابات في السبعينيات من القرن الماضي.
ما لا تقوله الشاشات
في كافة البرامج السياسية والاقتصادية على الشاشات الأوروبيّة حديث لا يتوقف عن التضخم وتراجع قيمة العملات وسياسات التقشف وغيوم الركود الملبدة. وهذه بالطبع مفيدة للخبراء الاقتصاديين وخريجي كليات إدارة الأعمال والتجارة، لكن لا أحد يقرأ ماذا تعني كل هذه للناس العاديين. دعوني أتحدث عن جانب واحد مُغفل.
في بريطانيا العظمى، الإمبراطوريّة التي لم تكن تغيب عن أملاكها الشمس وإحدى اقتصادات العالم الكبرى، فإن مزيداً من النساء يلجأن إلى العمل في مجال بيع المتعة الرخيصة لتغطية نفقات بيوتهن بعد تراجع الدخول بسبب أزمة تكاليف المعيشة. وتقول تقارير لجمعيات لا ربحيّة تتابع هذه المسائل بأن كثيرات من هؤلاء هنّ ربّات بيوت إلى جانب الفتيات الفقيرات اللواتي لا يجدن ما يكفي لتسديد إيجارات السكن الباهظة وتكاليف فواتير الطاقة والمحروقات والتعليم والانتقال في المدن الكبرى... وفي بلد لا يجّرم العلاقات الجنسيّة التي تتم بالتراضي فإن الإحصاءات الرسميّة تشير إلى أن قطاع الدّعارة ساهم مباشرة – دون حسبان الخدمات الموازية – بما يزيد عن ستة مليارات دولار أميركي يتوقع أن تتضاعف هذا العام نظراً لانتشار الظاهرة بشكل غير مسبوق بسبب الفقر.
وتقدّر جهات متخصصة بأن حوالي ربع بائعات الهوى عدن إلى المهنة القذرة في عام 2022 بعد سنوات من الابتعاد عنه، وأن ارتفاع تكاليف المعيشة – أثر كليا أو جزئيا – في عودتهن. المتوقع بأن الأمر لا يقتصر على النساء وحدهن، إذ أن العمل الجنسي للذكور قد ارتفع في بريطانيا بشكل ملحوظ في الأشهر الأخيرة وبما يزيد عن ثلاثة أضعاف مستوياته في 2019، لا سيّما مع انتشار تطبيقات التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت.
ماذا تفعل الحكومة البريطانيّة في المقابل؟ بينما ترسل لندن عدة مليارات من الدولارات لشراء الأسلحة وشحنها إلى الجيش الأوكراني، تبحث الأجهزة الحكوميّة الآن عن تشريعات ممكنة لا لحماية النساء من غول الفقر الذي يدفعهن لبيع أجسادهن للعابرين، ولكن لتمكينهن من ممارسة الدعارة بأمان نسبي بحماية الشرطة.
غروب الغرب: حرب أوكرانيا بداية النهاية لرفاه أوروبا
تستمر الحكومات الأوروبيّة في سياساتها الانتحاريّة هذه بلا تردد، ويبدو أنّها ستقود شعوبها الخانعة مثل القطعان إلى المذبح من أجل الصراع الأميريكي – الروسيّ، وسينتهي الأمر بفقدان مستويات عيش مرفه طالما استمتعت به تلك الكتل البيضاء على حساب الشعوب الأخرى، ولسان حالها يقول كما قالت نائلة الزبّاء يوماً، «بيدي، لا بيد عمرو».
*القدس العربي