وقد اعتبرالإسلام المعركة التي يخوضها الإنسان ضدّ طغيان الرغبة في نفسه، أكثر شراسة من المعركة الَّتي يخوضها ضدّ الأعداء الآخرين، لأنَّ العدوَّ الخارجي يحاربك بأسلحة منظورة تستطيع أن تجابهها بأسلحة أخرى أقوى منها أو مماثلة لها.
وإذا كانت ساحة المعركة واسعة بينك وبين العدوّ، فبإمكانك أن تملك حرية الحركة وأنتَ تحارب، نظراً إلى أنَّك منفصل عن كيانه، كما هو منفصل عن كيانك، ولكلٍّ منكما طاقاته الَّتي تواجه طاقات الآخر بعنف في عملية الصراع والقتال.
أمّا العدو الداخلي، نفسك التي بين جنبيك، غرائزك التي تتحرّك، رغباتك التي تثور، فإنَّه يحاربك بأسلحة غير منظورة، لأنّها توقظ في كيانك مشاعرَ وأحاسيس وعواطف، تدغدغ، وتلهب، وتحرق، وتفحُّ، وتثير، وتثور، وتنفجر، فلا تكبتها من جانب، إلَّا لتثُور من جانب آخر.
أمَّا أنت، فإنّك ـــ في نطاق ذلك ــ لا تحارب في ساحة واسعة، أو في كيان منفصل، لأنّ الساحة لكلِّ المتحاربين هي أنت، بكلّ كيانك، وشخصيّتك، وطاقاتك...
إنّه الجهاد الأكبر، كما قال عنه النبيّ الأعظم محمَّد (ص)، في الحديث المشهور، بعد رجوعه من إحدى معاركه، مخاطباً أصحابه: "مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهادُ الأكبر". فقيل: يا رسول الله، وما الجهاد الأكبر؟ قال: "جهاد النفس"( 1).
إنّها المعركة الصَّعبة التي تكون فيه مهاجماً بالشخصيَّة نفسها التي تدافع، ومدافعاً بالشخصيَّة نفسها التي تهاجم. فأنتَ تحارب نفسك لتنتصر على نفسك بنفسك، وإنْ كانت الأسلحة التي تقاتل بها هي مبادئك وعقلك وإرادتك، والأسلحة التي تقاتلها هي غرائزك وشهواتك وأطماعك، ولكنَّك عندما تنتصر، ستكون القوَّة التي لا قوَّة فوقها، لأنّها هي التي تنتصر على كلِّ عوامل الضّعف، من أضعفها إلى أقواها.
ومن استطاع أن ينتصر على نفسه، فإنَّه يستطيع أن ينتصر على الأعداء الآخرين بكلِّ سهولة.
وبهذا، كانت عملية الجهاد النفسي تخضع للتدريب المستمر المضني، في سبيل تحصيل القوّة واستكمالها بطريقة حاسمة، بمختلف الرياضات الروحيَّة التي قد تتّخذ شكل إلزام النفس بترك بعض المباحات، لتتعوَّد على أن تواجه بالرفض العمليّ فيما يجوز لها شرعاً، لتستطيع الانضباط أمام المحرَّمات بشكل أقوى. وقد تتّخذ الالتزام الطويل بترك الأمور المشتبهة، التي لا يعرف حكمها من حيث الحلّ والحرمة، وإن كان الجهل عذراً شرعاً، لتتحقّق له المناعة النفسية في ترك الأمور المعلومة من حيث الحكم بالحرمة، كما ورد بذلك الحديث المأثور عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام): "مَن ترك ما اشتبه عليه من الإثم، فهو لما استبان له أترك"(2 ).
وقد تطول المدَّة أو تقصر، تبعاً لطبيعة الحالات التي تعيش فيها النَّفس، أو لنوعية الظروف الموضوعيَّة التي تحكم الموقف، أو لأوضاع الأشخاص الَّذين يمارسون هذه الرياضة، لأنّ الهدف من ذلك كلّه هو تحقيق المناعة النفسية ضدّ عوامل الانحراف، بتخفيف نوازع الضغط الداخليَّة، وبتقليل تأثير الضغوط الخارجيَّة على إرادة الإنسان، مما يوجب اختلاف طبيعة الرياضة وزمانها وأشخاصها.
* من كتاب "الإسلام ومنطق القوَّة".
السيد محمد حسين فضل الله
-----------------------
[1]الكافي، الشّيخ الكليني، ج5، ص12.