وهذا هو قوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُواً}[الكهف: 56].
فهؤلاء يستهدفون الحقّ بمحاولة إثارة أفكار الباطل الَّتي لا ترتكز على أيّ حقيقة فكريّة، أو أيّ موضوعية عقليّة، من أجل أن يدحضوا الحقّ بأساليب السخرية والاستهزاء، مما لا يملك الداعية المسلم أيّ فرصة للدخول معهم في قضايا الفكر، وفي امتدادات الحقّ؛ لأنّهم لا ينفتحون بأسماعهم على ما يسمعون، ولا بأبصارهم على ما يقرأون، الأمر الذي يجعل الجدال معهم جهداً ضائعاً لا يحقِّق أيّ نتيجة إيجابيّة لمصلحة الوصول إلى الحقيقة بأسلوب الحوار.
إنّ المنهج القرآنيَّ لا يمنع الذين يؤمنون بالباطل من أن يدخلوا في تجربة الجدال ضدّ الحقّ، ولكنّه يريدُ منهم أن يحترموا طبيعة الجدال، بالالتزام بعناصره الفكريّة، وثقافته الموضوعيَّة، ليكون الحوار فكرةً تواجه فكرةً، ودليلاً يعارض دليلاً، وبرهاناً يدحض برهاناً، من أجل الوصول إلى قاعدة مشتركة في الموضوع الذي يقع محلاًّ للاختلاف.
وإنّ هُناك الكثير من الاتجاهات والأفكار الموجودة اليوم في العالم، فكيف نستطيع أن نواجهها؟ وما الأسلوب الّذي ينبغي أن نتَّبعه معهم؛ أنمنعهم ولا نسمح لهم بأن يدخلوا معنا في حوار وفي جدال، أم لا نعطيهم الحرية في هذا المجال؟!.
إنَّ القرآن الكريم هو كتاب الحِوار، وقد أعطى المشركين أن يقدِّموا كلَّ ما عندهم، ونقل لنا ما كانوا يثيرونه ضدَّ الرّسول (ص) والأنبياء (ع)، وهذه هي عظمة القرآن الكريم، فمن أين عرفنا أنهم كانوا يقولون عن الأنبياء مثلاً بأنهم مجانين؟! ومن الذي خلَّد لنا القول بأنهم كانوا يقولون للنبي (ص) عن القرآن {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}[الفرقان: 5]، {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ}[النّحل: 103]؟! ومن أين عرفنا أيضاً أنهم كانوا يقولون عن النبيّ إنَّه شاعر وإنَّه ساحر؟ من الَّذي خلَّد لنا هذه الأشياء؟ إنَّه القرآن، وقد خلَّدها لنا لنعرف كيف واجه النبيّ هذا المجتمع الذي كان يُطلق هذه الأفكار الَّتي لم تكن أفكاراً علمية ولا موضوعية ولا ثقافية، وكان النبيُّ يردُّ عليها، وكذلك القرآن.
لذلك، فإنَّ موقفنا اليوم مع أهل الباطل هو موقف القرآن، نستمع إليهم ونردُّ عليهم ونناقشهم، ونحاول أن ندخل في جدالٍ معهم، ولكن بشرط أن يكونوا موضوعيّين، أي لا يتحركوا على أساس عنصر الإثارة أو عنصر السخرية أو الاستهزاء.
* من كتاب "النَّدوة"، ج 19.
السيد محمد حسين فضل الله