ولم يقتصر الرد العراقي على رد الجهات الرسمية، حسب وكالة الأنباء العراقية، بل تعداها ليشمل مختلف القطاعات الشعبية للعراق بمختلف مكوناته الكردية والشيعية والسنية.
فما هي حقيقة تصريحات الرئيس الأمريكي التي إستوجبت هذا الكم الهائل من الردود الرسمية والشعبية العراقية؟
وما الذي يمكن ان يختلف بالنسبة لتواجد القوات الأمريكية على الاراضي العراقية، مما كانت عليه حتى الأمس القريب؟
وما هو الدور الذي من المقرر ان تقوم به، بعد تصريحات ترامب الأخيرة؟
وما الذي يمكن ان يستشفه القارئ من التصريحات الأخيرة للمسؤولين العراقيين، ناهيك عن زعماء التيارات السياسية والشعبية الأخرى؟
وللوقوف على حقيقة الأمر لابأس بمراجعة الردود العراقية قدر ما يسمح به المقام، ونبدأ بتصريحات رئيس الوزراء العراقي السيد عادل عبد المهدي الذي سارع بعيد تصريحات ترامب بالرد عليها مؤكدا "رفض استخدام العراق من أي دولة ضد دولة أخرى، ولا يجب أن يكون العراق طرفا في أي معركة بين دولتين".
واستمر عبد المهدي بالكلام في مؤتمره الصحفي الأسبوعي بالعاصمة العراقية بغداد يوم أمس الثلاثاء (5-2-2019) ليقول: "لا توجد قواعد عسكرية أمريكية في العراق، بل هناك مدربون في إطار التحالف الدولي".
وأنهى رئيس الوزراء العراقي كلامه حول تصريحات ترامب، بالقول: "نختلف مع الجانب الأمريكي بشأن التصريحات الأخيرة ونحن نرفض هذا المفهوم وهذه التصريحات غير مفيدة ويجب التراجع عنها".
وفي السياق ذاته اعلن رئيس مجلس النواب العراقي محمد الحلبوسي يوم الثلاثاء ايضا، إن المجلس تلقى طلبًا لإعادة النظر في وجود القوات الأمريكية في البلاد مضيفا أن البرلمان العراقي سيعمل وبالتنسيق مع رئيس الوزراء عادل عبد المهدي لمعرفة الحاجة الفعلية بشأن القوات الأجنبية المتواجدة في البلاد حاليا.
واضافة الى تصريحات رئيس البرلمان العراقي هذه اكد نائبه حسن الكعبي أن "مجلس النواب العراقي سيعمل على تشريع قانون يتضمن إنهاء العمل بالاتفاقية الأمنية مع الولايات المتحدة".
ونكتفي بهذا القدر من التصريحات الرسمية للمسؤولين العراقيين ونعتذر عن التطرق لتصريحات زعماء التيارات والكتل السياسية لكثرتها والتي تعبر عن واقع ما تستوعبه الشعوب من الحضور التدميري للقوات الأمريكية ودعمها للزمر الإرهابية، اينما حلت.
لكن ما يلفت الإنتباه التوقيت الذي اعلن فيه ترامب عزمه إبقاء قوات امريكية في العراق لمراقبة ايران على حد زعمه. وهذا ما سنحاول التطرق اليه حسب ما يسمح المقام.
اما المراقبون يرون ان تصريحات ترامب الأخيرة سيكون مصيرها المثل القائل: "من جرَّب المجَرَّب حلت به الندامة"، اي ان ترامب لو كان يتحلى بشيء من الفهم السياسي، لنراجع الملفات الأمريكية السابقة التي جربتها الحكومات التي سبقته بشقيها الجمهوري والديمقراطي تجاه ايران.
فعلى مدى اربعين عاما التي أمضتها الثورة الاسلامية الايرانية، كانت الولايات المتحدة الامريكية تمارس اقسى وأشد العقوبات التي يمكن فرضها على خصومها، وبمختلف اشكالها العسكرية والإقتصادية والثقافية و...، لكنها لم تحصد منها سوى الخيبة، وبالمقابل وجدت ايران يستقوي عودها، وتتعافى، وتواصل نهج الإعتماد على الكفاءات والطاقات الداخلية.
فقد تمكنت ايران من الخروج مرفوعة الرأس من حرب فرضتها أمريكا عبر عملائها الإقليميين ومن خلال إغواء نظام صدام البائد، في ظل حصار سياسي اقتصادي مطبق بدعم من كل القوى المتغطرسة آنذاك شرقية وغربية، لكن النتيجة سجلها التاريخ لصالح ايران وفضح المخططات الامريكية وعملائها الاقليميين، والتي كانت أحد اسباب إزالة النظام الصدامي على يد الساسة الامريكيين انفسهم مطلع العام 2003.
ولم تكتف واشنطن بالضغط على إيران من خلال حربها الإقتصادية عليها، بل راحت تمهد لضرب أصدقاء ايران وتفتيت وإثارة الفتن بين الدول والشعوب المتعاونة معها في المنطقة والعالم، فبدأت بسوريا والبحرين، وأتبعتها اليمن والعراق وافغانستان و...، لكن ايران التي أثبتت أكثر من مرة انها تعمل على توطيد العلاقات وإستتباب الأمن والسلام في المنطقة والعالم خاصة مع دول الجوار، وقفت وبكل جدارة أمام المؤامرات الخبيثة للساسة الأمريكيين، وتمكنت من إفشال أكبر مؤامرة عرفها تاريخ المنطقة لتفتيت دولها وذلك من خلال زج الجماعات التكفيرية الإرهابية فيها، ليكون الصراع هذه المرة داخليا، بل صراعا دمويا بطابع مذهبي.
لكن الفشل والفضيحة كانا هذه المرة أيضا من نصيب المؤامرات الدخيلة على المنطقة، فكانت ايران الداعم الأساس والركن الركين في الوقوف الى جانب شعوب المنطقة - رغم إختلاف مشاربها ومذاهبها - في التصدي الحقيقي للإرهاب، وكشف زيف المزاعم الأمريكي التي تحاول التستر خلف قناع محاربة الإرهاب.
واليوم وبعد إنكشاف معظم المؤامرات الأمريكية ضد ايران وثورتها التي تعيش أيام ذكرى إنتصارها الأربعين، تأتي تصريحات ترامب لتجسد غاية عجزه من السيطرة على أي نشاط ايراني على حد زعمه، رغم خروجه من الاتفاق النووي الذي وقعته بلاده مع ايران في اطار المجموعة الدولية، وفشله في اقناع اوروبا من ايجاد آلية للتعاون الإقتصادي مع ايران.
والأنكى من ذلك ان العراق لم يكتف بالرد على التصريحات الأخيرة لترامب حول إبقاء قواته في العراق لمراقبة ايران، بل أنه راح يعيد النظر وعبر برلمانه في أصل إستمرار الحضور الأمريكي في الأراضي العراقية بعد إعلان العراق القضاء على معظم الجماعات الإرهابية المتسللة الى داخل البلاد.
والأكثر من ذلك ان المسؤولين العراقيين وقعوا يوم أمس الثلاثاء (5-2-2019) إتفاقا مع ايران يقضي للبلدين استخدام العملة الوطنية للتبادل التجاري والإقتصادي فيما بينهما دون الرجوع الى الآليات الدولية التي تخضع للهيمنة الأمريكية.
ويرى المراقبون ان امريكا لم يبق امامها لتشديد الحصار والضغط على إيران سوى التلويح بورقة إعادة الجماعات الإرهابية، للمنطقة إذا ما سحبت قواتها منها. وهذا ما حاولت طرحه لدى تخويفها الحكومة السورية، بعد سحب قواتها من أراضيها، وتعاود اليوم تهديد العراق بهذه الورقة البالية.
لكن الشعبين السوري والعراقي يعرفان أكثر من أي وقت آخر مدى صحة المزاعم الأمريكية، خاصة فيما يخص استخدام الآليات التي إبتدعتها لتفتيت دول وشعوب المنطقة، بما فيها آلية استخدام الجماعات التكفيرية الارهابية.
فالشعوب والدول الإقليمية أضحت اليوم قوة أساسية في التصدي لأي قوة تدعم الجماعات الإرهابية، محلية كانت أو اقليمية، ولن تتردد في الرد عليها خاصة اذا كانت مدعومة من جانب أمريكا التي لم يبق أي ستار على سياساتها الداعمة للإرهاب، ومحاولاتها للسيطرة على دول المنطقة وثرواتها ومقدراتها.
وان شاء ترامب ان يُجرِّب حظه، ولم يتعظ بتجارب أسلافه، فسنعود للمثل الذي سقناه بداية المقال: "مَن جرَّب المُجرَّب حلَّت به الندامة" والأيام بيننا.
عبد الهادي الضيغمي ـ قناة العالم الاخبارية