وعليه فإن المسار الطبيعي للبحث عن النبوة يبدأ بالبحث عن الله تعالى، وقد بين الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ هذه الحقيقة عندما سأله السائل بقوله: (فمن أين أثبت أنبياء ورسلاً؟ قال أبو عبد الله عليه السلام: إنا لما أثبتنا أن لنا خالقا صانعا متعاليا عنا وعن جميع ما خلق وكان ذلك الصانع حكيما لم يجز أن يشاهده خلقه ولا يلامسهم ولا يلامسوه ولا يباشرهم ولا يباشروه ولا يحاجهم ولا يحاجوه، فثبت أن له سفراء في خلقه وعباده يدلونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه وثبت عند ذلك أن له معبرين وهم الأنبياء وصفوته من خلقه حكماء مؤدبين بالحكمة مبعوثين بها غير مشاركين للناس في أحوالهم على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب، مؤيدين من عند الله الحكيم العليم بالحكمة والدلائل والبراهين والشواهد من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، فلا تخلو أرض الله من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقال الرسول ووجوب عدالته)
وبذلك نؤكد على وجود تلازم بين إيمان الإنسان بالله وبين إيمانه بالأنبياء، إلا أننا لا نبحث هنا عن ضرورة الإيمان بالله وإنما نكتفي بالتأكيد على كون الإلحاد ليس إلا خروجاً عن مقتضى العقل والمنطق والوجدان، وبالتالي سقوط الإنسان معرفياً وقيمياً واخلاقياً؛ لأن وعي الإنسان بذاته وشعوره الدائم بكونه مخلوق لا يمكن تجاهله أو إنكاره، ومن هنا فإن الإلحاد ليس إلا مساراً معاكساً للبديهة والوجدان.
وما يهمنا هنا هو التأكيد على أن مقام النبوة ليس مقاماً عادياً حتى يصبح عرضة لتلاعب اللاعبين، والدليل على ذلك فإن كل من ادعا النبوة كذباً كان محلاً للتهكم والسخرية، وحتى لو فرضنا وجد بعض المناصرين له إلا أنه سرعان ما ينكشف امره ويبان كذبه، ولا فرق في ذلك بين هذه العصر والعصور السابقة، فالنبوة الكاذبة مشروع لا يمكن أن يكتب له النجاح في أي زمان وفي أي مكان، والسبب في ذلك أن النبوة تمثل حلقة الوصل بين السماء والأرض، مما يعني أن النبي معبر عن إرادة الله سبحانه وتعالى أي ممثلاً للحق والعدل في كل شيء وهذا المقام لا يكون إلا للمعصوم، ومن هنا كان ادعاء النبوة ليس أمراً بسيطاً بل مجازفة خطيرة.
هذا مضافاً إلى أن الله يؤيد الأنبياء بالمعاجز والكرامات، فليس من السهل أن يدعي الإنسان العادي هذه المرتبة وهو يعلم أن الله سيخذله، وبالتالي الامر ليس له علاقة بالوقت الذي يأتي فيه النبي وإنما له علاقة بما يدعيه ذلك النبي، فإن كان صادقاً على الله فالعقل يصدقه وإن كان كاذباً فان العقل يكذبه، ولذا كان هناك انبياء صدقهم الناس وامنوا بهم منذ بداية دعوتهم وإلى يومنا هذا، وبالتالي النبوة ليست مجرد استجابة لحاجة الإنسان للحماية، أو لأن إنسان الماضي لم يكن يعرف الأسباب الحقيقية للظواهر الطبيعية، وإنما حاجة الإنسان للنبوة هي من أجل الوصول بالإنسان إلى مرتبة الكرامة الإنسانية، ولذلك مازالت البشرية في حاجة إلى توصيات الأنبياء وكلماتهم، بل كل ما تقدمت العلوم المادية كلما حس الإنسان بضرورة الاستنارة بهدي الأنبياء وإرشاداتهم.
ومن الواضح أن البحث عن القوانين الطبيعية وربط الظواهر بأسبابها المباشرة لا يغني الإنسان عن الارتباط بالغيب والبحث عن المطلق، فتفاعل الإنسان مع عالم المادة وتسخيرها ضمن شروطها الطبيعية يعد خطوة ضرورية للتكامل المادي للإنسان، أما تكامله الروحي وعروجه إلى المعاني السامية والقيم الكلية لا يكون إلا بانفتاحه على الغيب، فلا التجربة المادية تحقق للإنسان ما يصبو له روحياً، ولا الغيب والتأمل في المطلق يحقق له ما يحتاجه مادياً، فالإنسان وبهذه الشخصية المركبة يمكنه السير في اتجاهات مختلفة في الوقت ذاته، فبعض الأمور ينظر لها بعقل تجريبي، والبعض الآخر بعقل تأملي، وبعض الحقائق يتفاعل معها حسياً، والبعض الآخر عاطفياً ووجدانياً، وهكذا الإنسان ليس ذاتاً بسيطة ينظر للأشياء من زاوية واحدة، ومن هنا نفهم ما أحدثه الإنسان من تطور مادي، وفي نفس الوقت نتفهم ما أحدثه من تكامل عرفاني وتأمل روحي.
يقول الدكتور ماكس نوردوه عن الشعور الديني: "هذا الإحساس أصيل يجده الإنسان غير المتمدن كما يجده أعلى الناس تفكيراً وأعظمهم حدساً، وستبقى الديانات ما بقيت الإنسانية، وستتطور بتطورها، وستتجاوب دائماً مع درجة الثقافة العقلية التي تبلغها الجماعة"
وقد أنتهى عصر الفلسفة الوضعية عندما أعلن منظرها الأكبر (سير الفريد آير) "في خمسينات القرن العشرين أن هذه الفلسفة ملأ بالتناقض، بالرغم من أنه قضى السنوات الطوال في معالجة أخطائها. لقد تنبه آير إلى أنه لا يمكننا تطبيق قواعد البحث في العلوم التجريبية التي تعتمد على الحواس (كالكيمياء والفيزياء) على العلوم الإنسانية (كالفلسفة والمنطق والأخلاق). كذلك لا يمكن دراسة المفاهيم الدينية بمقاييس المفاهيم العلمية؛ فلا ينبغي - مثلاً - محاولة فهم مقولة: (إن الله موجود في كل مكان – كلي الوجود-) بمفاهيم المكان في فيزياء نيوتن أو فيزياء أينشتاين. بذلك قام آير بإعلان موت الفلسفة الوضعية المنطقية ودفنها".
وبعد تراجع المنطق الوضعي الذي كاد أن يهيمن على العقل الغربي، استقلت العلوم الإنسانية بوضعية معرفية خاصة امتازت بها عن العلوم التجريبية، فكان لذلك الأثر الكبير في الاعتراف بالأديان كضرورة لا تغني عنها العلوم الطبيعية.
المصدر : موقع العتبة الحسينية