لم يكن تصريح وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو حول لقائه وزير الخارجية السوري فيصل المقداد منذ 10 أشهر سوى رسالة في كلّ الاتجاهات، أولها للداخل التركي المعارض الذي أعلم إردوغان بأنه سينهي قضية اللاجئين السوريين بالانفتاح على سوريا وزيارة الرئيس الأسد إذا ما نجح في انتخابات 2023، والرسالة الثانية لبعض الدول العربية التي تعمل على الوساطة بين تركيا ودمشق. وأخيراً، جاء التصريح بمنزلة إعلان نيات عن عمل جاد.
أتى التصريح بعد عودة الرئيس التركي من طهران ولقاء الرئيس الروسي بوتين، وكلامه عن نصيحته بضرورة التواصل مع الرئيس الأسد، لكنه عاد وأكد فيما بعد أنَّ المشكلة تكمن بين الأسد والمعارضة أولاً.
أعقب هذا التصريح تأكيد لوزير الداخلية سليمان صويلو بأن تركيا بنت 69 ألف وحدة سكنية في الشمال السوري لإيواء اللاجئين، في إشارةٍ إلى عدم أهمية إعادة اللاجئين من جهة، والتأكيد على الشريط الحدودي الذي تسعى تركيا لإنجازه، والذي سيضم حتماً اللاجئين المقربين منها، وهم ليسوا من كرد "قسد".
كانت الصدمة لدى بعض الشبان السوريين في الشمال الغربي واضحة، إذ قامت تظاهرات تعبيراً عن رفض الفكرة، كلٌ لأسبابه، ولا سيما أنَّ المنطقة الحدودية باب الهوى/سرمدا أصبحت الوجهة الأساسية للبضائع الآتية من الخارج، وتحوّلت إلى نقطة إمداد للأسواق السورية في المناطق الواقعة في قبضة المسلحين.
ويُشار في هذا الصدد إلى أنَّ إدلب، بأعداد سكّانها الآخذة في التزايد، كانت ولا تزال السوق المباشرة لهذه البضائع. ويضمّ شمال سوريا، ولا سيما المنطقة الخاضعة لسيطرة المقاتلين السوريين المدعومين من تركيا، أي عفرين ومنطقة "درع الفرات" الواقعة شمال حلب، أسواقاً مهمة انتعشت وأدت إلى نزوح التجار إليها من أنحاء سوريا. إذاً، نحن أمام فرقاء مستفيدين من الوضع القائم.
لقد مزّق البعض العلم التركي تعبيراً عن غضبهم، ما أثار حفيظة أتراك الداخل، الذين اعتبروه مهانة لتركيا التي "احتضنت" المعارضة ودعمتها، فيما تعرضت بعض الأقلام للسياسة التركية، واعتبرت أن تركيا، منذ دخولها في تفاهمات أستانة برعاية روسية ومشاركة إيرانية، استغنت عن المعارضين وهي تنطق باسمهم. تمسك تركيا بزمام المجموعات الكبرى في الشمال السوري، وهي التي تملك القرار في تلك المنطقة.
المتغيّرات التي عجّلت مسارات المراجعة التركية
لا شكّ في أنَّ المتغير الأول حول سقوط مشروع "الربيع العربي"، أكده جهد رئيس تركيا في العمل لاستعادة علاقاتها العربية عندما كسر الجليد مع دولة الإمارات العربية وذهب لزيارتها. وعبر هذه الزيارة، أعلن عملياً سقوط مقولة: "فليحكم الإخوان"، وأكد "إخفاق الربيع العربي" في مجمل البلدان العربية، وذهب إلى بداية مرحلة التغيير في سياسته الخارجية التركية بعدما انكسرت مشاريعه.
المتغير الثاني هو سقوط استراتيجية تركيا في السيطرة على سوريا، فانحسرت أحلام إردوغان في سوريا حتى المطالبة "بشريط حدودي"، أي "المنطقة الآمنة" التي يحمي من خلالها أمنه القومي، ويطالب بكسر مشروع الحكم الذاتي الكردي في سوريا، بعدما شجعه الحليف الأميركي على الانفتاح على حزب العمال الكردستاني والحوار معه والاعتراف الضمني بـ"المسألة الكردية"، التي كانت ستؤدي، بحسب اعتقاده، إلى القبول بحكم ذاتي للكرد في الداخل التركي، فانتفض ضد المشروع وقلب الطاولة وأسدل الستار على هذه الفترة.
يعلم الرئيس التركي أنَّ أفضل حليف له في رفض الحكم الذاتي الكردي هو الرئيس الأسد، فكلا الرجلين يرغب في الانسحاب الأميركي الذي يحمي مشروع الكرد في شمال شرقي سوريا.
في النتيجة، إن سقوط الاستراتيجية يستدعي بدوره سقوط الحاجة إلى الميليشيات والمرتزقة والإرهابيين في إدلب. أما ورقة اللاجئين السوريين التي استغلها الرئيس التركي ولوّح بها في وجه الأوروبيين، فلم تعد تعطي أكلها، وأصبحت ورقة خاسرة في يده مع الاستحقاق الانتخابي 2023، إلى جانب حدة الأزمة الاقتصادية وازدياد البطالة وانتشار نقمة الأتراك في وسائل التواصل الاجتماعي على وجود اللاجئين وتفاقم المشكلات ضدهم. وهنا تكمن مصلحة الرئيس الأسد من أجل التفاهم على عودة آمنة للسوريين.
لطالما كانت طهران داعمة لإنهاء الخلافات بين سوريا وتركيا والإسراع في إيجاد الحلول، فالأميركي كان، وما زال، يرسل المبعوثين إلى تركيا، ويضع العصي في دواليب الحل. تصريح إردوغان عن استمرار اللقاءات الاستخبارية يشي بالبحث عن تفاهمات.
لإردوغان مصلحة في إنهاء الملف السوري والتوجه إلى الداخل بورقة يصبح من خلالها رابحاً، فيما بدأت بعض وجوه المعارضة المقربة من الأميركي بانتقاد تحولاته وتحميله وزر الحرب في سوريا، بعدما كان جزء كبير من هذه المعارضة داعماً للحرب.
هل هناك مصلحة لسوريا اليوم في إعادة النظر في اتفاق أضنة وتوسيع أفقه، بما يضمن أمنها والأمن القومي التركي؟
المسارات التي يمكن أن تسلكها المصالحة
هل ستسير تركيا نحو فتح قناة سياسية مباشرة مع دمشق أو أنَّ الأمر مرتبط بشروط معينة؟ بدا واضحاً أن المصالحة يجب أن تتم بين الرئيس السوري والمعارضة، ما يعني أن المصالحة بين دمشق وأنقرة ليست وشيكة، بل إنّ حلّ مسألة اللاجئين يشكل أولوية، كذلك التفاهم على تطوير اتفاق أضنة بوساطة روسية، وهما الطريق لتطبيع علاقات البلدين. سيأخذ الأمر وقتاً، ولكن أنقرة تعتقد أن انسحابها لن يتم قبل ذلك.
ترى أنقرة أن للدولة السورية الدور الأكبر في إبعاد مقاتلي "قسد" عن الحدود التركية والتفاهم مع التنظيم نفسه واستيعابه، لكن هل يمكن إبعادهم عن أراضيهم التي يملكونها؟ وهل ستتمكن الدولة السورية من كسر مشروعهم؟ ترى موسكو أن الأمر بحاجة إلى تفاهمات داخلية سورية سورية.
لم يعد هناك موانع إقليمياً ودولياً من أجل إيجاد الحل السياسي في سوريا. موسكو تمتلك الأوراق في الملف السوري. لذلك، من المحتمل أن تكون الحلول أقرب إلى رؤيتها في ضرورة إصلاح النظام وإعادة الهيكلة.
تبدو تركيا، عبر تصريحات مسؤوليها، جدّية في حل الموضوع السوري الذي سيشكل إنجازاً داخلياً وخارجياً على صعيد العلاقات مع الدول العربية.
تؤدي كلّ من طهران وموسكو دوراً في تقريب وجهات النظر. ولا شكّ في أن موسكو تطمح إلى إعادة العلاقات السياسية بين تركيا وسوريا، بما يمكن أن يعزز العلاقات الإقليمية بين دول المنطقة من جهة وموسكو من جهة أخرى، فهل يمكن الوصول إلى بر الأمان؟
هدى رزق