حينها طرحت أسئلة كثيرة حول هذه الظاهرة المتجددة والمتمثلة في وجود مجموعات عسكرية تابعة للمقاومة الفلسطينية وبأعداد كبيرة. لكن أهم تلك الأسئلة المطروحة اليوم، تتعلّق بمدينة جنين ومحيطها وريفها، لماذا الفعل المقاوم والمسلح ينشط فيها من دون بقية مدن الضفة؟.
هذا السؤال الذي يتفرع منه عدة أسئلة تتعلق بطبيعة هذه الظاهرة وخلفيتها التاريخية والأيديولوجية والبيئة الحاضنة لها، وكذلك الأمر علاقة هذه الظاهرة بجملة التحولات المصيرية التي تعتور القضية الفلسطينية برمتها، وعلى وجه الخصوص حال الكفاح المسلح الفلسطيني.
من دون شك فإن التجارب السابقة للآباء والأجداد، مدت في عضض الأبناء المنتسبين اليوم لهذه الكتيبة، فجنين شاهدة على إرث تاريخي عظيم دشّنه الشيخ عز الدين القسام في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي عندما اختار هذه المنطقة لتكون منطلقاً للثورة الفلسطينية الكبرى ضد الاحتلال البريطاني لفلسطين. ولم يكن هذا القرار عشوائياً بل جاء ضمن دراسة لهذه المنطقة تتضمّن الجغرافيا والناس. فهي قريبة من الأردن وسوريا ولبنان، ومفتوحة على بقية المناطق والمدن الفلسطينية الأخرى، وهذا العامل سيمد الثورة بالدعم اللوجستي من تلك البلدان وهذا ما حصل. أمّا على صعيد الناس، فقد تكوّنت لدى القسام قناعة أن أهل هذه المنطقة مهيأون على الصعيد النفسي والانتماء الديني والوطني ليتكلفوا أعباء هذه الانطلاقة.
ومع رحيل المحتل البريطاني عن فلسطين وقيام دولة الاحتلال في العام 1948، كانت جنين مرة أخرى على موعد مع معركة كبرى بعد أن قام الصهاينة باحتلالها في بداية العام 1948، لكن التحام الجيش العراقي الموجود على أطرافها بالقرب من بلدة قباطية مع أهل المدينة وجوارها، أجبر جيش الاحتلال على الانسحاب منها، مخلفاً وراءه مئات القتلى والجرحى، ومدمراً معظم آلياته التي احتل بها المدينة.
وفي أوج التحضير للثورة الفلسطينية، كانت جنين وريفها في نهاية العام 1967، أي بعد احتلال الضفة الغربية على موعد مع زائر جديد لها، وهو الرئيس الراحل ياسر عرفات، حيث تنقل في أريافها، وأقام قواعد مسلحة، مستلهماً من تجربة القسام السابقة مثالاً له. ورغم مكوثه فيها لبضعة أشهر، إلا أنه استطاع أن يؤسس بالفعل قاعدة صلبة لحركة «فتح» كبرى فصائل العمل الوطني الفلسطيني في ذلك الوقت.
وقبل سنوات قليلة من اندلاع انتفاضة الحجارة في العام 1987، كان الشهيد فتحي الشقاقي على موعد جديد مع مدينة جنين بزيارات متعددة، في رحلة البحث عن القسام وتجربته، حيث زار المدينة وأريافها واضعاً اللبنة الأولى لحركة «الجهاد الإسلامي» في الضفة الغربية.
وأمام هذا التراث العظيم من العمل الكفاحي كانت جنين تتجهز، عبر انتفاضة الأقصى، لتكون القاعدة الأولى والمتقدمة في صنع الملحمة التي سطرت على أرضها في العام 2002، لتعود بعد عشرين عاماً بجيل جديد يحمل عبء التجربة ويمضي فيها.
التأسيس والبدايات
بعد عملية السور الواقي وفق التسمية الاحتلالية لها، أصبحت جميع مناطق (أ)، التي كانت تصنف ضمن السيطرة الفلسطينية الكاملة، كلها تحت سيطرة الاحتلال. فجميع المدن الفلسطينية التي كانت تحت هذا التصنيف، تحوّلت إلى مشاع لقوات الاحتلال، تدخلها ليلاً ونهاراً وتمارس فيها أشكال الإرهاب كافة، من قتل وتنكيل واعتقالات، ثم تعود أدراجها إلى أطراف المدن حيث المستوطنات والمعسكرات التي أقامتها وتوسّعت بها بعد عملية السور الواقي.
وفي هذه الفترة كانت المقاومة الفلسطينية المسلحة في الضفة الغربية، تعيش ذروة ضعفها، باستثناء بعض العمليات، ذات الطابع الفردي والهبات الشعبية، التي اعتمدت بدورها على الإمكانيات البسيطة المتوافرة لدى السكان، والتي تأثرت بأحداث كبرى، بالتحديد في كل ما يتصل بالمسجد الأقصى، أو القضايا المتصلة بإضرابات الأسرى داخل السجون، أو بعض الجرائم التي كان يخلفها الاحتلال في هجماته المتكررة على المدن والقرى والمخيمات.
كان الاحتلال يتفاخر بأنه أجهز على المقاومة ونال منها، وحتى منعها من إعادة إقامة البنى التحتية لها. وأمام هذا التفاخر كانت السلطة تعيش أسوأ لحظاتها بالفعل، إذ كان الإعلام الإسرائيلي يتفنن في الحديث عن السيناريوات المفترضة لنهاية السلطة، طبعاً عبر تمرير التقارير الصحافية التي تفصّل فساد السلطة والصراعات الداخلية بين أجنحتها.
كل تلك السيناريوات محمولة بالقطيعة السياسية، مع قيادة السلطة، وإغلاق ملف التفاوض السياسي ودفنه إلى الأبد، إضافة إلى ذلك، الضغط على السلطة لتحويلها إلى أداة طيعة في خدمة أجندته الاحتلالية، عبر الاقتطاعات من الأموال الضريبية، لمنع السلطة من أداء واجبها المالي تجاه أهالي الأسرى وأهالي الشهداء، بذريعة أن هذا الدعم يذهب إلى إرهابيين وفق منطوق الاحتلال. في حين أن الاحتلال لم يتوقف لحظة عن ممارساته سواء ضد الشعب الفلسطيني، أو ضد مؤسسات السلطة، لإيصال رسالة واضحة للكل، أن المنسق الاحتلالي هو الحاكم الفعلي للضفة، فهو الآمر الناهي والذي بيده مقاليد الحكم، وأن السلطة هي جزء لا يتجزأ من أدواته في إدامة الاحتلال وتأبيده.
وأمام هذه الإرهاصات، بدأت تتشكل قناعة لدى ثلة من الشباب المقاوم، أن المبادرة يجب أن تخرج منهم، وفي جنين ومخيمها وقراها، بدأت تتشكل مجموعات عسكرية صغيرة العدد، تتداخل فيها الانتماءات الأيديولوجية، وقد ساعد على ذلك الكثير من العوامل، أهمّها العربدة اليومية لجنود الاحتلال، وضعف السلطة على جميع الأصعدة، الأمر الذي أتاح لتلك المجموعات هامشاً للحركة، تصاعد بشكل متواتر حتى وصلت الحالة إلى ما وصلت إليه اليوم. فالاشتباكات المسلحة التي بدأت تواجه قوات الاحتلال في منطقة جنين، أثناء اقتحاماتها، أخذت بالتصاعد، ومع سقوط الشهداء والجرحى من المقاومين (سجّل حتى هذه اللحظة سقوط ما يقارب 25 شهيداً في تلك المواجهات منذ بداية العام الحالي) أصبحت شعبية تلك المجموعات المقاومة تتصاعد في بيئتها الحاضنة، وأصبح الفعل المقاوم سيد الموقف.
ويسجل للشهيد جميل العموري الذي استشهد في حزيران من العام الماضي، أنه من أبرز المؤسسين للعمل العسكري، وواضع اللبنة الأولى لكتيبة جنين. لكن مع حادثة تحرر أسرى جلبوع في أيلول من العام الماضي، جاءت التسمية لفعلهم المقاوم، فالأسرى الستة الذين ينتمون بغالبيتهم لـ«الجهاد الإسلامي» في فلسطين، شكلوا بفرارهم من الأسر رافعة قوية، استحضر فيها أهالي جنين وعموم فلسطين أهمية الفعل المقاوم، وتيمناً بهم انتقلت التسمية للمجموعات المسلحة في جنين، وتوحدت تحت هذا الإطار، الذي يشبه إلى حد بعيد الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة في قطاع غزة. ففي الكتيبة خليط من «سرايا القدس» و«كتائب شهداء الأقصى» و«كتائب القسام»، لكن الغلبة في مكونها الأساسي تعود لـ«سرايا القدس»، الجناح المسلح لحركة «الجهاد»، لأن جنين تعد المعقل الأساسي، منذ نشأتها في الضفة. ويبدو أن توحد القوى المقاومة تحت هذا المسمى، والدور المركزي الذي تلعبه «السرايا» فيها، له أسباب أخرى تتعلق بكون «السرايا» تمثّل القاسم المشترك بين الجميع، فهي لم تدخل في الصراعات والانقسام الحاصل بين «فتح» و«حماس»، والآخر أن الحاضنة الشعبية تثق بالسرايا، باعتبارها صمام أمان لنجاح الفعل المسلح.
كتيبة جنين تتمدّد
بعد أن اشتد عود كتيبة جنين، تحولت بسرعة إلى مثال يحتذى به، حيث تشكلت في مدينة نابلس «كتيبة نابلس»، وهي مكونة من «كتائب شهداء الأقصى» في غالبيتها مع «سرايا القدس»، إذ بدأت الكتيبة بحراسة داخل المدينة، ومشاغلة قوات الاحتلال أثناء اقتحامها للمدينة، يضاف إلى ذلك بعض الهجمات النوعية على النقاط العسكرية، المتمركزة حول المدينة، إضافة إلى ذلك، التصدي المسلح لقطعان المستوطنين، الذين يهاجمون شرق المدينة لإقامة صلواتهم التلمودية في قبر يوسف.
يسود الاعتقاد أن هناك تنسيقاً كاملاً بين كتيبتي جنين ونابلس، بخاصة بعد حادثة الاغتيال التي وقعت في حي المخفية داخل مدينة نابلس قبل خمسة أشهر، والتي أسفرت عن استشهاد كل من أدهم الشيشاني، ومحمد أبو الرائد، وأشرف المبسلط، الذين قاموا بزيارة جنين قبل استشهادهم بأيام.
أمام هذا المشهد الذي أفضى إلى توسيع وانتشار الكتائب المسلحة، أعلنت قوات الاحتلال عن عملية عسكرية أطلقت عليها «جز العشب»، تعتمد على الهجمات الخاطفة بهدف اغتيال المقاومين. لكن هذه العملية المستمرة حتى هذه اللحظة جوبهت بمقاومة عنيفة بخاصة في جنين وأريافها، أدّت إلى سقوط قتلى وجرحى في صفوف القوات الخاصة، الموكلة بهذه المهمة، إذ أعطت هذه العملية نتائج معاكسة لما أراده جيش الاحتلال، فصدى كتيبة جنين بدأ يصل إلى عموم المحافظات الفلسطينية، حيث تشكلت «كتيبة طولكرم»، و«كتيبة رام الله»، و«كتيبة الخليل». وتستمر هذه الكتائب باستهداف المستوطنات والمعسكرات والنقاط العسكرية المقامة على أطراف المدن، ويسجل لهذه الكتائب حضورها اليومي في هذا الفعل المقاوم.
وما بين جنين في الشمال والخليل في أقصى الجنوب، أضحت هذه الظاهرة التي تتسم بالنمو والتكامل، تشكل الصورة الكاملة للبنية العسكرية للفصائل الفلسطينية المقاومة، وأصبح من الصعب على قوات الاحتلال مواجهة هذه الظاهرة والإجهاز عليها، بخاصة أن هناك قناعة تشكلت لدى الجيل الشاب بأن المقاومة المسلحة هي الطريق الوحيد لانتزاع الحقوق، وأن الاحتلال وأدواته وخياراته تقوم على تأبيد الاحتلال، وتحويله إلى قدر في الوعي الفلسطيني. وربما كل محاولات الاحتلال في فرض وجوده، والتي أطلق عليها تسمية «كي الوعي» في امتحان حقيقي مع الوعي الفلسطيني الذي تبلور تحت أسنة الحراب، أصبح اليوم في مواجهة مفتوحة على كل الأصعدة؛ فزيارة الشهيد ضياء ورعد، وأبناء اغبارية، وأبو القيعان، لمدننا المحتلة في العام 1948، رسالة واضحة من المقاومة الفلسطينية، بأنها قادرة على الهجوم وليس فقط الدفاع، وهي رسالة مهمة، أن الفلسطيني المقاتل قادر أيضاً على كي الوعي عبر تلك الكتائب، والعاقبة لأهل الأرض.