بسم الله الرحمن الرحيم؛ “بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۚ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ” (الانبياء: 18)
منذ ما يقرب من ١٣٨٠ عام ولا زالت أنباء كربلاء طرية غنّاء، تهز مسامعنا بل مسامع الدهر في كل يوم وكأنها البارحة.
انباء قصة الفداء لهذا الدين العظيم وقانون السماء القويم، قصة نفوس أبية تقدمها نفس مقدسة لم يكن على وجه البسيطة شبهها، نفوس أبت الا ان تكون قرابين في سبيل بارئها وحفظ دينه ليصل الينا سليماً معافى كي ننال به رضا الله تعالى وسعادة الدارين.
ومنذ تلك الظهيرة التي شهدت عناق الحسين وانصاره مع سبيل المجد وسلسبيل الجنان.
ومنذ ان سَعُدَ الثرى باحتضان اجسادهم وفرحت الثّريّا باستقبال ارواحهم، ومنذ ان ناح الدين لفراقهم وشقت جيبها الدنيا، لا زالت هناك نفوس تتلمس آثار الفداء ونهج الكرامة من تلك النفوس الأبية، نهجُ ريحانة محمد، وشبل علي، وبضعة فاطمة نهجُ تلك الثلة المؤمنة بقانون الله في الارض.
لا زال هناك اولياء لله يعشقون عاشوراء ومبادئ السماء، يسيرون وفق منهج الامامة القويم لآل محمد (صلوات الله تعالى عليهم أجمعين)، همهم اداء تكليفهم الذي يريده الله، ملتزمون بالحجة عليهم، إماماً كان او نائباً للامام.
نهجهم نهج سيد الشهداء، نهج اداء التكليف الشرعي وان كان ببذل الدماء، فهم يحبون ما احبه الله لهم ان كان حياةً فحياة تملؤها الطاعة، وان كان موتاً فموت في سبيل الله مسلِّمين لامره.
فطريق الحسين لم يكن طريق إلقاء النفس في التهلكة، ولم تكن المجابهة العسكرية هدفاً لأبي عبد الله، بل كان حفظ الدين والمقدسات هو الهدف.
إلا ان مرور ذلك في عصر سيد الشهداء لم يكن إلا من بوابة بذل نفسه الزكية، وإلا فحياة حجة الله أولى من أن تذهب في سبيلٍ غير سبيل حفظ الدين والمقدسات.
لذا عندما حُفظِ الدين بدماء الحسين، نَهَجَ ابناؤه الميامين من الائمة المعصومين نهج الحياة اداءاً لتكليفهم في رعاية الامانة التي تسلموها بدم أبيهم الثائر الشهيد، فكان الدين سالماً بسلامتهم، ومشيداً بعلومهم، وحياً بحياتهم.
انه نهج اداء التكليف الالهي ورثه شيعتهم منهم (عليهم السلام) جيلاً بعد جيل.
فتية الدفاع الكفائي والسير على المسار الحسيني
وعلى هذا المسار هبّوا شيباً وشباناً في هذا العصر لتلبية التكليف الذي نطق به نائب الامام، فتصدوا لشذاذ الآفاق الناصبين العداء لآل الله وشيعتهم، فذادوا عن نقاء الاسلام ومقدساته في بلد المقدسات.
ذادوا عن الاعراض في ملاحم سُطِّرت فيها من معاجز الفداء ما يعود معها اللسان كليلا والقلم مكسورا.
كان نصب أعينهم أنفة الحسين حينما واجه العتاة المردة: "هيهات منا الذلة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت وانوف حمية ونفوس أبية من ان نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام".
فأبت نفوسهم الهوان فأذاقوا اعداءهم الباغين كؤوس المرارة وألحقوهم بأسلافهم الناكثين والقاسطين والمارقين، لا يأبهون بالحتف ولا يقيمون له وزنا مادام في طريق الله.
وبعد ان وعوا كلمة شبيه النبي خَلقاً و خُلقاً ومنطقا علي بن الحسين عندما سأل أباه: “يا أبتِ ألسنا على الحق؟”
فاجابه الاب الحاني: "بلى والذي اليه مرجع العباد".
فاطلقها الأكبر كلمةً حفظتها لنا كربلاء: "اذاً لا نبالي أوَقعنا على الموت او وقع الموت علينا".
لقد خبروا هذه الكلمات وعاشوا معانيها فلم يبالوا بعد ذلك ما دام نهجهم الحق وسبيلهم الطاعة.
ولقصص البطولة التي سطروها فصول ملأت سوح الوغى بارواح سَحَرَها حب الحسين ومآثر طفه العظيم فعاشوا قيم الاسلام العاشورائية فكان الايثار حاضراً والوفاء قائماً والبذل ساريا.
كانت تراتيل صلاتهم تؤنس نفوسهم وسكان السماء، وكان صيامهم غذاء قلوبهم وتصفيةً ونقاء، كانوا مدافعين عن الاطفال والنساء، سجية هي وليدة لسجايا كربلاء.
كانوا سقاة لظمأ الخائفين، من بطش الادعياء المارقين، وأمام اعينهم قمر الطف عباس الاباء واليقين.
كانوا مكاناً لكل فضيلة حملوها معهم عقيدة، منيبين لرب السماء.
واستردوا الارض محررين فاتحين من قرية الى قرية، ومن مدينة الى مدينة يرون ألطاف بارئهم تنهمر عليهم كالسيل.
فكان نصب أعينهم احدى الحسنيين فإما نصرٌ تام تراهُ ابصارهم فيكسوهم الله بحلةٍ وضياء، واما شهادة يصاحبون بها الانبياء والائمة الاوصياء، فكان لكل حسنى نصيب.
“فاما الشهادة فانبرى لنيلها ثلة رأت الحسين أمامها رأي العين، يقاتل اعداء الدين، فلبسوا القلوب على الدروع، وقد اشتاقوا لمضاجع الخلد وكأني بخواطرهم يجول بها قول بنت علي، زينب العقيلة: “هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا الى مضاجعهم”.
فتمنوا ان يشملهم قول العقيلة في طريق رضا الله، فكان رضاه ينتظرهم ليغمرهم برحمته.
"انهم فتية آمنوا بربهم فزدناهم هدى"
فما دماؤهم التي ضُرِّجوا بها، ولا اعضاؤهم التي قُطِّعت، ولا اشلاؤهم التي وُزِّعت، يرونها تفي بمواساة ذاك الشهيد الذي بكته الارض والسماء، المرمل بالدماء، مسلوب العمامة والرداء، المرضوض ظهره بخيل العدا.
فعرجت ارواحهم على نهجه وهي تبكيه، واخبرنا صاحب الفتوى الكبير بان عروجهم كان مع اصحاب الحسين.
واما حسنى النصر، فَسَعُدت بثلة مذخورة يفرح بنصرها المؤمنون، يرفعون لواء الظفر على اعداء الدين، تاركين في ذاكرة التاريخ انهم من مصاديق قول خالقهم "انهم فتية آمنوا بربهم فزدناهم هدى".
فالهدى الذي وفقوا له بأداء تكليفهم كان مصدر ثباتهم وقوتهم، وتركهم للملذات وهم يواجهون قسوة الحرب بمكانها وظروفها، فلم يلوِ عزيمتهم برد، ولا حر، ولا عطش، ولا جوع.
فواصلوا افتراش الرمال نياماً وقعوداً غير آبهين، لا يغيب عنهم تواضع أئمتهم في الحروب لا سيما أبي عبد الله الحسين في كل مواقفه التي ثبت بها قائداً متواضعاً حانياً رؤوفاً ملبياً لأمر الله.
فكانت موعظتهُ بالغة في نفوسهم، ابطالاً اتخذوا من بطولته قدوة كان ثمارها النصر واعادة الحق الى نصابه بشجاعة تفتخر انها وصف لهم.
فالسلام على صُنّاع النصر شهداء و أحياء، مقاتلين، وساندين، وباذلين، ومن خلفهم عليٌ سليلُ عليٍ، مرجع الحكمة، والصبر، والتصدي، صاحب الفتوى الكبير، جزاهم الله تعالى جميعاً خير الجزاء، واجزل لهم الثواب.
والحمد لله أولا وآخرا، وصلى الله على محمد وآله ابدا.
بقلم / عبد الناصر السهلاني