ظن الشاه أنه بدخول السيد الخميني للنجف ينتهي دوره الرسالي وتذوب شخصيته ويافل نجمه لوجود العديد من العلماء المراجع في النجف الاشرف آنذاك من أمثال السيد أبي القاسم الخوئي والسيد محسن الحكيم والسيد محمود الشاهرودي والسيد محمد البغدادي.
دخل السيد الخميني النجف الاشرف لكنه على غير العادة السائدة من يدخل النجف ينهل من علومها في حوزتها العتيدة ليتدرج في مراتب العلم وصولا إلى الاجتهاد والمرجعية، السيد الخميني الوحيد الذي دخل النجف مرجعا فقيها قائدا صاحب نظرية في الحكم والإدارة والتغيير، وسرعان ما استقر الأمر بالأمام الراحل في مدينة جده أمير المؤمنين (ع) حتى شرع السيد الإمام معلنا التغيير والحركة والملامح القادمة للمنطقة والعالم.
لم تكن الدوائر الإقليمية والعالمية تدرك بأن هذا السيد سيقوم بعملية تغيير نوعي هز أركان الأنظمة شرقا وغربا، كانت المحطة الأولى في النجف مسجد الشيخ مرتضى الانصاري، وكان درس الامام الراحل عبارة عن دروس في ولاية الفقيه وهي سلسلة دروس في الحكومة الإسلامية ومنهجية ولاية الفقيه.
وبقي الفقيه المرجع القائد غير عابئ بما يجري في المنطقة ومن ضمنها إيران والعراق، كان النظام العراقي السابق في عهد احمد حسن البكر بصدد تقوية العلاقات مع نظام شاه إيران، لكن العقبة الوحيدة التي تشكل حجر عثرة في هذا الطريق هو وجود الامام الخميني في النجف، فما كان من البكر إلا أن بعث بوفد رفيع المستوى إلى السيد الخميني يخبره أن حكومته بصدد تقوية العلاقات مع شاه ايران واتفقا على عدم التدخل في شؤون كل من البلدين في الاخر، فقال للسيد نريدك أن لا تتدخل في الشأن الإيراني. فأجاب الامام الراحل إن الاتفاق بينكما لا يلزمني انني لم اتفق مع أحد.
واستمر السيد الفقيه المرجع الثائر صاحب نظرية حاكمية الاسلام في التاريخ الحديث بالقاء دروسه وتحلقت حوله جموع طلبة الحوزة العلمية من العراقيين والايرانيين والعرب والهنود والباكستانيين والافغان، لكن الشاه لم يرق له تألق نجم السيد الإمام فما كان منه إلا أن دبر حادثة اغتيال لنجل الامام الخميني الأكبر آية الله السيد مصطفى الخميني صاحب تفسير القران والعديد من المؤلفات فاتفق جهاز المخابرات الشاهنشاهي السافاك مع جهاز المخابرات العراقي زمن البكر وكان صدام وقتها نائبا للبكر على تدبير عملية اغتيال للسيد مصطفى (قدس سره) الذي دفن في الصحن العلوي الشريف.
ولم ينثني السيد الخميني مواصلا إصراره على المضي قدما في التأسيس لنظام ديني يحكم باسم الإسلام وثورة شعبية جماهيرية تتخذ من قضايا الأمة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية منهجا واطارا لتوحيد المسلمين حول أهدافهم المشروعة.
وتعاظمت الحركة الإسلامية الشعبية في داخل إيران عام سبعة وسبعين وثمانية وسبعين وتسعمائة والف، فضغطت حكومة الشاه على حكومة بغداد من أجل إخراج الامام الخميني خارج العراق، فاختار باريس منفى له ليقود من هناك اعظم ثورة في التاريخ لا توازيها الثورة الفرنسية ولا الثورة البلشفية في روسيا، وكانت ثورة الخميني الثائر الذي أوجد زلزالا في المنطقة والعالم وسحب البساط من تحت ارجل المستكبرين وأوجد صدمة كبرى في داخل الكيان الغاصب لفلسطين.
ونجحت ثورته الشعبية وهتفت الملايين محيية السيد وهي تدعوه للقدوم من منفاه في باريس ليصل إلى طهران منتصرا، حيث استقبلته الملايين الثمانية في طهران هاتفة بحياته مستعدة للتضحية بكل شيء من أجل اهداف ثورته العملاقة.
وفي عام 1989 فارق الامام الخميني الحياة ملبيا نداء ربه وقد ودعه اثنا عشر مليون شخص شاركوا في أكبر تشييع في التاريخ الحديث.
رحل السيد الخميني قبل ثلاثة وثلاثين عاما تاركا وراءه نظاما مؤسساتيا يرتكز على أسس تعمل وفق المنهج العلمي المعاصر برؤية شرعية تتناسب مع متطلبات العصر الحديث.
ترك الامام جمهورية إسلامية أصبحت قوة نووية كبرى في المنطقة تخشاها أنظمة الغطرسة والسلطة وتحسب لها الف حساب، اجل أنه أرسى دعائم نظام اعز الأمة الإسلامية ووقفت له الملايين من المسلمين وأحرار العالم ومستضعفيه بإجلال وإكبار.
تحية للامام الراحل في ذكرى رحيله (قدس سره) الشريف طاب ثراه ودام نهجه النير الوضاء، حمل رحمه الله هم المحرومين والمستضعفين وكان فكره سعة العالم وهمه هم البشرية بأسرها ومن خوالد كلماته الرائعة التربوية الأخلاقية: "اكتب بقلم العقل على لوح القلب أن لا مؤثر في الوجود الا الله".
رحم الله السيد الإمام الخميني وقد قيض الله للأمة من بعده فقيها مرجعا قائدا شجاعا أديبا وسياسيا محنكا إنه الامام السيد علي الخامنئي (دام عزه) وهو يواصل قيادة السفينة في هذا البحر المتلاطم ويحبط مؤامرات ومخططات الأعداء الواحدة تلو الأخرى.
اعز الله المسلمين وزادت شوكتهم وتألقت مكانتهم بين الأمم من أجل أن تحتل امتنا المكان اللائق لها بين أمم الأرض.
محمدعلي ابوهارون