قانون تجريم التطبيع بمواده العشر، رسم الخطوط الحمر بصورة أكثر وضوحاً في ما يرتبط بأي شكل من أشكال العلاقات والتواصل مع "إسرائيل"، سواء من قبل المؤسسات السياسية الرسمية للدولة، أم من قبل المؤسسات والمنظمات والشركات غير الرسمية، فضلاً عن الأشخاص العراقيين وغير العراقيين المقيمين في العراق، واختصرت السلطة التشريعية موجبات سن ذلك القانون بـ"بغية المحافظة على المبادئ الوطنية والإسلامية والإنسانية في العراق، ونظراً إلى الخطورة الكبيرة التي تترتب على التطبيع مع الكيان الصهيوني المحتل أو الترويج له أو التخابر معه أو إقامة أي علاقة معه، وقطع الطريق أمام كل من يريد إقامة أي نوع من أنواع العلاقات مع الكيان الصهيوني المحتل، ووضع عقاب رادع بحقهم، والحفاظ على وحدة الصف بين أبناء الشعب وهويته الوطنية والإسلامية".
ولعل الأمر اللافت والمهم هو أن أعضاء البرلمان العراقي بمختلف توجهاتهم وانتماءاتهم السياسية والقومية والمذهبية والطائفية أدلوا بأصواتهم لصالح قانون تجريم التطبيع مع تل أبيب، رغم الكثير من الاختلافات والتقاطعات في ما بينهم بشأن جملة من القضايا السياسية والأمنية والاقتصادية، إلى جانب التفاعل والترحيب الواسع من قبل شتى الفئات والشرائح والنخب والمحافل الاجتماعية والفكرية والثقافية، فضلاً عن وسائل الإعلام المتنوعة.
ولاشك في أن هذا التفاعل والتجاوب الكبيرين سيعطيان المزيد من الزخم لترسيخ الموقف العراقي الرافض التطبيع وتكريسه، حتى وإن بدا أن هناك قدراً من الغموض قد اكتنف بعض مواد القانون.
والنقطة الجوهرية هنا تتمثل في أن سنّ القانون من قبل أعلى سلطة تشريعية في البلاد، بخصوص قضية حساسة وخطيرة، يعني في ما يعنيه قطع الطريق مستقبلاً على أي جهة سياسية أو حكومية، يمكن أن تفكر وتتحرك باتجاه تجاوز الخطوط الحمر، فضلاً عن كونه سوف يعزز ثقافة رفض الكيان الصهيوني وكل من يدعمه ويسانده، وكذلك الانتصار لمظلومية الشعب الفلسطيني.
وبصرف النظر عن الجهة السياسية التي أقدمت وبادرت الى تفعيل هذه الخطوة، وبعيداً عن الحسابات والدوافع السياسية الخاصة، فإنها انطوت على رسائل مهمة في خضم الكثير من الكلام واللغط عن وجود توجهات ونيّات ومخططات ومشاريع لوضع العراق على سكة التطبيع مع الكيان الصهيوني، كما حصل مع دول عربية وغير عربية عديدة في الأمس البعيد والأمس القريب، ويتمثل أبرز تلك الرسائل في أن هناك إرادة سياسية وشعبية عراقية ترفض خيار التطبيع مع "إسرائيل" جملة وتفصيلاً، بحيث إنها غير مستعدة حتى لطرح الموضوع ومناقشته داخل الأروقة السياسية والمحافل المجتمعية العامة.
وحتى لا تبدو المواقف والتوجهات مجتزأة، ومنفصلة عن السياقات والمسارات الثابتة، فإنه لابد من التأكيد أن العراق، عبر مؤسساته السياسية ومرجعياته الدينية ونخبه الاجتماعية والثقافية، لم يتبنّ في كل المراحل أي مظهر من مظاهر التطبيع مع "إسرائيل"، فدوره الفاعل والإيجابي في مختلف الحروب العربية-الإسرائيلية منذ تأسيس الكيان الغاصب في عام 1948، وفتاوى مراجع الدين بدعم وإسناد نضال الشعب الفلسطيني، وحضور فلسطين وتضحيات أبنائها في شتى المحافل السياسية الإعلامية والثقافية والأكاديمية العراقية، تثبت طبيعة المواقف المبدئية وجوهرها وثباتها وصلابتها.
وإذا كانت هناك توجهات متعاطفة لهذا الطرف أو ذاك حيال "إسرائيل"، فإنها كانت في واقع الأمر خجولة وخفية، بحيث يتجنّب أصحابها الإفصاح عنها والاعتراف بها علناً، كما هي الحال بالنسبة إلى بعض الشخصيات العراقية التي زارت تل أبيب تحت جنح الظلام، أو الأطراف السياسيين الذين مدّوا خيوط علاقاتهم مع "إسرائيل" منذ عقود من الزمن وعملوا على تهيئة وتوفير مواطئ قدم لها على الأرض العراقية.
وشكلت معركة "سيف القدس"، العام الماضي، فرصة ومناسبة مهمة لإظهار حقيقة المواقف العراقية الداعمة للشعب الفلسطيني والرافضة للكيان الصهيوني؛ فبينما كانت دوائر صنع القرار في تل أبيب وواشنطن وعواصم أخرى تصوّب أنظارها وتركيزها على العراق باعتباره المحطة الأساسية والمحورية في مسيرة التطبيع، ارتباطاً بحقائق ومعطيات عديدة، جاءت المواقف الرسمية وغير الرسمية العراقية الداعمة للشعب الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية في إطار معركة "سيف القدس"مع الكيان الصهيوني لتشكّل رداً قاطعاً وصريحاً وبليغاً على كل محاولات جرّ بغداد إلى طريق أبو ظبي والمنامة والرباط والخرطوم، وقبل ذلك طريق القاهرة وعمّان.
ما هو مهم للغاية أيضاً في حيثيات قانون تجريم التطبيع، هو أنه نسف كل الجهود والمساعي والتحركات الإسرائيلية بطابعها السياسي والاجتماعي والثقافي الرامية إلى اختراق بنية المجتمع العراقي، سواء عبر القنوات السياسية غير الرسمية، أم وسائل الإعلام المرئية، أم منصات التواصل الاجتماعي، أم الخلايا الاستخبارية، أم كل تلك الوسائل والأدوات مجتمعة، تحت عنوان الحرب الناعمة.
ومن دون أدنى شك، فإن الصدمة كانت كبيرة جداً على صنّاع السياسات وأصحاب القرار في تل أبيب وعواصم غربية وعربية، وهم يتلقون الأنباء المحبطة لآمالهم ومشاريعهم من بغداد، ولاسيما أنهم ينظرون إلى المشهد من منظار واسع لا يقتصر على حدود الجغرافيا العراقية، بل يتعدّاها إلى تفاعلات الأحداث في فلسطين المحتلة، والدور والحضور والتأثير الإيراني، وتزايد قدرات وإمكانيات وعناصر قوة محور المقاومة، ونجاح سوريا في إفشال مخطط إطاحة نظامها السياسي، وكذا الحال بالنسبة إلى حركة أنصار الله اليمنية.
ولم تتأخر "إسرائيل" في التعبير عن انزعاجها الشديد من قانون تجريم التطبيع العراقي، إذ أكدت الخارجية الإسرائيلية في بيان رسمي لها "أن إسرائيل تدين قرار مجلس النواب العراقي إقرار قانون ضد التطبيع وفرض عقوبة الإعدام على كل من يتواصل معها"، معتبرة "أن القانون يضع العراق والشعب العراقي في الجانب الخطأ من التأريخ وبمعزل عن الواقع".
وادّعت الخارجية الإسرائيلية في بيانها أن "التغيرات في الشرق الأوسط واتفاقيات السلام وتطبيع الدول العربية مع "إسرائيل" هي التي ستحقق الاستقرار والازدهار لشعوب المنطقة، بل هي مستقبل الشرق الأوسط!".
وسبقت واشنطن حليفتها تل أبيب في الإفصاح عن موقفها الرافض للخطوة العراقية، من خلال بيان للمتحدث باسم الخارجية الأميركية نيد برايس، جاء فيه: "تشعر الولايات المتحدة بانزعاج كبير من إقرار البرلمان العراقي قانوناً يجرّم تطبيع العلاقات مع "إسرائيل"... يعرّض هذا القانون حرية التعبير للخطر ويعزّز بيئة معادية للسامية، كما أنه يتناقض بشكل صارخ مع التقدم الذي أحرزه جيران العراق من خلال بناء الجسور مع إسرائيل وتطبيع العلاقات معها وخلق فرص جديدة للناس في مختلف أنحاء المنطقة"، مؤكداً استمرار الولايات المتحدة في مواصلة دورها كشريك قوي وثابت في دعم "إسرائيل".
ومن العاصمة البريطانية لندن خرج النائب عن البرلمان البريطاني ديفيد لامي ليدعو حكومة بلاده إلى استخدام كل أدواتها لإفشال قانون تجريم التطبيع. فضلاً عن ذلك، فإن وسائل الإعلام الغربية، وخصوصاً الأميركية والبريطانية، تناولت الموضوع بكثير من النقد والتخويف والتهويل. في الوقت ذاته، سرّبت مصادر خاصة معلومات مفادها أن أوساطاً أميركية وإسرائيلية تواصلت مع بعض الجهات والشخصيات السياسية العراقية القريبة منها، ووجّهت لها لوماً وعتباً شديدين إزاء موقفها الداعم لقانون تجريم التطبيع، وطلبت منها معالجة هذا الإشكال وتلافيه، وهذا ما انعكس بصورة تغريدات وتصريحات من هنا وهناك تدعو إلى السلام بين كل دول المنطقة وشعوبها، بما فيها "إسرائيل"، أو تؤكد أن تصويتها لصالح القانون لا يعني انخراطها في محور المقاومة!.
ولا شك في أن ردود الفعل الإسرائيلية والأميركية والبريطانية الغاضبة، والاستياء غير المعلن لعدد من الأطراف والقوى الإقليميين، تعكس في جانب كبير منها الأثر الكبير الذي سيترتب على الخطوة التاريخية العراقية، في وقت راحت فيه القراءات والتحليلات الاستشرافية عن قرب انهيار الكيان الصهيوني تتزايد وتتّسع من داخل الكيان ومن خارجه، وهي قراءات وتحليلات تستند إلى أرقام وحقائق ومعطيات ومؤشرات واقعية ملموسة أكثر من كونها تحتكم إلى تمنيات عاطفية من وحي الخيال.
وتتعمّق المخاوف والهواجس الغربية من أن يشجّع تشريع قانون تجريم التطبيع العراقي مع "إسرائيل" مجالس برلمانية عربية وغير عربية أخرى في المنطقة على اتخاذ خطوات مماثلة، وبالتالي توسيع دائرة الرفض لمجمل مشاريع التطبيع وخططه، ليفضي ذلك إلى عزل "إسرائيل" أكثر من قبولها واستيعابها. ويبدو أن البرلمان الجزائري يتجه الى الإقدام على الخطوة ذاتها التي اتخذها البرلمان العراقي، حيث قدّمت حركة مجتمع السلم، التي تعدّ أكبر كتلة معارضة في البرلمان الجزائري، مشروع قانون من سبع مواد لتجريم التطبيع مع تل أبيب، ومن المتوقع أن يتم تمرير مشروع القانون، رغم تعدد واختلاف المواقف والتوجهات بين القوى والكيانات المكوّنة للبرلمان الذي يضم 462 عضواً.
ومن خلال كل ذلك، يمكن القول إن قانون تجريم التطبيع من قبل البرلمان العراقي، كان بمنزلة إحكام إغلاق كل الأبواب بوجه "إسرائيل"، وملاحقة ومتابعة من يدخل خلسة من الشباك.!
عادل الجبوري - موقع الميادين