فمرّة أخرى تظهر القيادة الإيرانية القدرة على الاستجابة الاستراتيجية السريعة للتعامل مع متغيرات متحركة، فتضرب في توقيت شديد الأهمية هدفاً شديد الأهمية أيضاً.
التوقيت هو تقاطع لحظتين غاية في الدقة والحساسية، الأولى هي لحظة الانشغال العالمي عموماً، والغربي خصوصاً، بالحدث الأوكراني، من جهة، وتعمّد الأميركيين خصوصاً والغرب عموماً تحويل الاتفاق النووي الى نقطة تقاطع مع الحرب الأوكرانية، وإدخاله في الجمود، من جهة موازية، والاعتقاد بالقدرة على تحويل ملفات المنطقة وفي طليعتها مصير الاتفاق النووي مع إيران، إلى ملف هامشيّ ووضعه على الرف، وتحويله إلى موضوع للابتزاز، تحت شعار ان الشيء الوحيد الذي قد يمنح الملف النووي أهمية هو مدى استعداد إيران للإسهام عبر رفع العقوبات عنها في محاصرة روسيا والمشاركة بفرض العقوبات عليها.
قالت إيران بلسان وزير خارجيتها إن ما عطل الاتفاق هو تقديم واشنطن طلبات جديدة، وإن طهران لا تخطئ في الاختيار بين موسكو وواشنطن، بين حليف استراتيجي وخصم استراتيجي، وتعرف كيف تدير خلافاً تكتيكياً مع الحليف الاستراتيجي حول الضمانات التي طلبتها روسيا، فلا تدع مجالاً للخصم الاستراتيجي ان يحقق أرباحاً من هذا الخلاف.
كما تعرف كيف تدير فرضية تفاهم تكتيتكيّ مع الخصم الاستراتيجي تمثله فرص التوصل للتفاهم حول الاتفاق النووي مع الغرب، فلا تقع في فخ الاعتقاد أن الخصم الاستراتيجي صار حليفاً. فقالت الصواريخ التي سقطت على موقع قيادة الموساد المحتضن من حماية القنصلية الأميركية، إن العدو عدو والحليف حليف، كما قالت إن التهميش له تبعات، وإن من يريد تفادي جبهات استنزاف عليه أن يعود الى الاتفاق بلا طلبات جديدة.
التوقيت أيضاً هو لحظة ارتباك إسرائيلية فقد بنت “إسرائيل” كل نظريّة المعركة بين حربين، التي تأسست عليها الغارات “الإسرائيلية “ على سوريا، والتي تستهدف بصورة خاصة أهدافاً لمحور المقاومة وبالأخص أهدافاً إيرانية، على معادلة الهامش الذي وفرته المقاربة الروسيّة لخريطة الأهداف المشتركة مع سوريا وإيران، والتي لا يندرج قتال "إسرائيل" ضمنها من جهة، وعدم رغبة إيران وسوريا وقوى المقاومة بتعريض العلاقة بروسيا للإحراج من جهة موازية.
وها هي العلاقة الروسية الإسرائيلية على المحك، في ظل السعي الأميركي لمحاصرة روسيا ومعاقبتها، و"إسرائيل" التي تتنعم بفائض أنتجته علاقتها بواشنطن، تتمتع بهامش مناورة وفرته العلاقة بروسيا، واليوم تجد نفسها في مأزق حيث يصعب الجمع بين الاثنتين، فتأتي الصواريخ الإيرانية رداً على استشهاد ضابطين من الحرس الثوري لتقول لـ”إسرائيل”، إن زمن أوّل تحوَّل، وإنه مهما كان خيارها فهي ستدفع الثمن غالياً، فإن رفضت المشاركة بالعقوبات الأميركية وخصوصاً المصرفية، فقدت غطاءها الذي يمنع مهاجمتها، وان انضبطت بالموقف الأميركي فقدت هامش الغارات على سورية، وبدأت تواجه معادلة العين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم.
ذكاء انتقاء الهدف، لا يقلّ أهمية عن ذكاء التوقيت، فالهدف هو مركز قيادة الموساد في كردستان العراق، حيث التغلغل الإسرائيليّ أحد مصادر هشاشة الوضع العراقي، والضربة الإيرانية وضعت التحالف الناشئ بين التيار الصدري والحزب الديمقراطي الكردستاني على المحك في هذا المجال، حيث تملك إيران ما يكفي من الوثائق لجعل الملف قضائياً وقانونياً، وتملك ما يجعل التيار الصدري ورئيس الحكومة مصطفى الكاظمي عاجزَيْن عن التغاضي، ووضع الملف على الطاولة من جهة، كما انتقاء الموقع الواقع فيقلب الحماية الأمنية الأميركية الخاصة بالقنصلية، عناصر تمنح العملية أبعاداً إضافية، وتحمل رسائل نوعيّة، لكونها تقول إن لا مكان في العراق للموساد ولا بقاء في العراق للاحتلال الأميركيّ.