وأهمية هذه الخطابة، وخاصة المتعلقة بالمنبر الحسيني؛ تنبع من تعدد أدواره وتكاملها؛ فإذا كان في ظاهره مساحة للتعبير عن العواطف والمشاعر تجاه مأساة كربلاء التي أعقبت إعلان الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ حركته التغييرية الإصلاحية الكبري؛ إلّا أن أهداف هذا المنبر اتسعت وتطورت بمرور الزمن، لتلتحم بأهداف الدعوة والعمل الإسلامي، وليتحول المنبر إلى أحد أهم وسائل الدعوة وأكثرها انتشاراً وتأثيراً.
وككل خنادق الإسلام ظل العنصر الإنساني هو العامل الأساسي في عملية التطوير والتجديد، فكان عمل الدعاة من خطباء المنبر الحسيني ينتقل بين التقليد والإبداع تبعاً للمستوي العلمي والوعي الاجتماعي والمعرفة بمتطلبات الزمان والمكان.
وبرزت في هذا المجال أسماء لامعة جمعت في شخصيتها العلم والتفقه (مستوى الاجتهاد) إلى جانب الدراسة الاكاديمية والوعي بحاجات الأمة السياسية والاجتماعية والمعيشية، وإتقان أساليب الخطابة والدعوة وتقنياتها.
وقد تميزت حاضرة النجف الأشرف بوجود هذه النوعية من الخطباء كما بقيت متميزة بحوزاتها العلمية ومنتدياتها الأدبية.
والعلّامة الداعية الأبرز الذي شغل منبره الساحة الاسلامية والفكرية والأدبية في البلدان العربية والإسلامية خلال نصف قرن من الزمن، هو الشيخ الدكتور احمد الوائلي (1927-2003)، والذي مثلت خطابته منعطفاً تاريخياً في مسيرة المنبر الحسيني، بل وفي مسيرة الدعوة الإسلامية بالكلمة؛ إذ نقل المنبر الحسيني شكلاً ومضموناً من واقع إلى واقع، وبالتالي؛ فمن غير الصحيح القول إنه جدد المنبر والخطابة، أو إنه طورها؛ بل أن الشيخ الوائلي أسس لمنهج مختلف في الخطابة الدينية والمنبر الإسلامي.
ومن غير الصحيح أيضاً القول إن الوائلي هو مدرسة في الخطابة الحسينية؛ لأنه ربما الوحيد الذي يمكن وصفه بالمدرسة، برغم بروز عدد من الخطباء الدينيين المجددين والمبدعين في القرن الميلادي الماضي.
ويعود سبب الفرادة والتميز في خطابة الدكتور الشيخ احمد الوائلي إلى جملة من العناصر المكمل بعضها بعضاً، والتي أعطت للشيخ الراحل صفة المؤسس والعميد:
1- دراسته المعمقة للعلوم الاسلامية الشرعية، إذ درس في الحوزة العلمية في النجف الأشرف على كبار علماء الدين وبلغ مستويات متقدمة.
وهذا العمق العلمي هو عنصر مهم؛ بل شرط في خطيب المنبر والداعية. وهذه العلوم تشتمل على علوم القرآن والحديث والكلام والفقه وأصول الفقه، فضلاً عن العلوم الأساسية كالعربية، والعلوم التكميلية كالفلسفة الاسلامية والتاريخ وغير ذلك، وبالتالي كان الشيخ الوائلي صاحب رأي فقهي وعلمي.
2- دراسته الأكاديمية، إذ درس في كلية الفقه في النجف الأشرف، ثم حصل على الماجستير من بغداد، والدكتوراه في الشريعة من القاهرة. وهذا العنصر له علاقة بنوعية المنهجية والموضوعية وحجم الآفاق التي تميزت بها خطابة الشيخ الوائلي.
3- اطلاعه الواسع على العلوم العصرية والفكر المعاصر؛ فقد كانت قراءات الشيخ الراحل تتسع لمختلف العلوم والمعارف كالفيزياء والطب والفلك والرياضيات وغيرها، فضلاً عن متابعته لآخر مستجدات الفكر الغربي والفلسفة الغربية والأديان والمذاهب.
هذا الأمر جعل الخطابة الدينية الدعوية للشيخ الوائلي شاملة في رؤيتها وموضوعاتها وعميقة في طرحها وعملية في شواهدها، إذ كان يضمن آراءه الفقهية والكلامية والتاريخية شواهد حسية من العلوم العصرية، ويستثمر بعض المناهج والآليات الجديدة في الاستدلال.
4- المناهج والأساليب الجديدة في طرح موضوع الخطبة وتقسيمها ومعالجة الموضوع والشواهد والاستدلالات التي تدخل في إطار المعالجة، فضلاً عن أسلوب المخاطبة وتوجيه المخاطب ولفت نظره واستدراجه، وهي بمجملها تقنيات حديثة جداً شدّت الجمهور إلى خطب الشيخ الوائلي، ولم يسبق لخطيب وداعية أن استخدم هذه الأساليب.
5- الشاعرية التي كان يتمتع بها؛ فقد كان شاعراً وأديباً بارعاً، لكلماته سحر خاصّ، تؤثر في العالم والجاهل. شاعريته وأدبه جعلاه ينتقي الكلمات والجمل البليغة في معناها والبسيطة في تركيبها، كما كان يضمّن خطبه شعراً ونثراً. ويضاف إلى ذلك مخزونة اللغوي الهائل وبيانه الفريد وقدرته النادرة على الإقناع.
6- صوته المتميز في ايقاعه ونغمه وتلون طبقاته، وهو أمر يضيف إلى سحر بلاغته وبيانه سحراً آخر. ولا يتوقف الشيخ الوائلي في توظيف صوته للمقاطع الشعرية التي تلقي بطريقة الترجيع (النعي)، وإنما يوظفها في كل اقسام الخطبة.
7- شخصيته الاجتماعية الإسلامية الحركية المتميزة؛ فقد كان الشيخ الوائلي يعيش في وسط المجتمع يتحسس آلامه وآماله، ولا يتردد في دعم الأفراد والجماعات، ومساعدتهم وحل مشكلاتهم.
وهذه الشخصية الاجتماعية العامة كان لها حضورها النوعي أيضاً في الأوساط الإسلامية الخاصة والعامة، كمراجع الدين والحركات الإسلامية والمؤسسات العلمية والثقافية والاجتماعية، وحظيت بفائق احترامهم. وما يميزه في هذا المجال أيضاً أنه كان بعيداً في الظاهر عن كل ألوان الخلاف بين المرجعيات والحركات والمؤسسات، ليس بعداً بالمعني السلبي، بل بمعنى أن لا يكون في الظاهر طرفاً فيها؛ الأمر الذي أضاف لشخصيته بعدا آخر يسمح له بالتدخل الإيجابي.
هذه العناصر التي جعلت من الدكتور الشيخ احمد الوائلي عالماً ومفكراً وخطيباً وداعية، حوّلت منبره الديني إلى منبر وعي وإرشاد ودعوة وتعليم وتثقيف على مختلف المستويات؛ فالخطابة الدينية لديه عملت على نشر الوعي الفقهي والعقائدي والتاريخي والاجتماعي والسياسي في اوساط الأمة.
ولعل الخطباء الواعين الذين عاصروه وجاؤوا من بعده؛ قد تتلمذوا على منبره، وإن لم يكن تتلمذاً مباشراً. إذ حاول هؤلاء الخطباء تبني العناصر التي ميزت المدرسة الوائلية في الدعوة الإسلامية بالكلمة، وبالتالي المحافظة على المستوى الذي أوصل إليه الوائلي الخطابة الدينية.
بقلم / المفكر الإسلامي علي المؤمن