وتشير الأدلة إلى أنه في الأيام القليلة الماضية، انتحر بعض الجنود المحبطين من الخروج والهزيمة في أفغانستان، وراجع العديد من الجنود الآخرين إلى مراكز الطب النفسي أيضًا.
إن الشعور السائد بالفراغ وعدم فهم جدوي الحضور لـ 20 عامًا في أفغانستان وتحمل جميع أنواع المصاعب والمشاق، يمثل مشكلةً يواجهها الجنود اليائسون للدول الأعضاء في الناتو.
أن تؤدي حربهم التي استمرت 20 عامًا مع طالبان إلى السيطرة الكاملة للجماعة على أفغانستان وإجبار الأجانب على الفرار، مع الإذلال والشعور بالضغوط والخوف من هجمات محتملة علي المطار، أمر خلق هذه الأيام اضطرابات نفسية كبيرة للقوات الأميركية والأوروبية.
وقد أدى ذلك إلى زيادة حالات الانتحار والعدوانية والاكتئاب بين صفوف هؤلاء العسكريين، ومن المرجح أن تصبح هذه الأزمة أكثر خطورةً في المستقبل القريب.
زيادة كبيرة في الاضطرابات النفسية بين جنود الناتو
في الأيام الأخيرة، اعترف جيمس هيبي، نائب وزير الدفاع البريطاني، علانيةً بأن عددًا من الجنود البريطانيين قد انتحروا بعد الهزيمة المهينة في أفغانستان.
وبحسب هذا المسؤول العسكري البريطاني الكبير، فإن عددًا من المحاربين البريطانيين القدامي الذين شاركوا في الحرب في أفغانستان قد انتحروا، لأن خروجهم المشين من هذا البلد وإعادة سيطرة طالبان عليه دمرهم.
وبالإضافة إلى القوات البريطانية، منذ أن سيطرت طالبان على كابول، ازداد عدد القوات الألمانية العائدة من مهمة أفغانستان الذين يراجعون إلى مختلف مراكز الطب النفسي يومًا بعد يوم، وفقًا لتقارير وسائل الإعلام الألمانية.
ووفقًا لإذاعة فرنسا، فإن القوات الألمانية التي خدمت في أفغانستان على مدار العقدين الماضيين، لا تجد أي معنى لمهمتها عالية المخاطر بعد انتصارات طالبان المتتالية، ومن خلال الذهاب إلى مراكز العلاج النفسي، فإنهم يبحثون عن فرصة للتحدث إلى المعالجين والعثور على إجابة للسؤال البسيط حول سبب إرسالهم إلى أفغانستان لمشاهدة أكثر المشاهد المفجعة هناك.
وفي مثال بارز آخر، وفقًا لصحيفة جيروزاليم بوست، فإن "بريان رايلي" البالغ من العمر 33 عامًا، والذي خدم في البحرية الأميركية لمدة أربع سنوات قبل تسريحه من الجيش، وتحديداً في العراق وأفغانستان، قتل أربعة أشخاص على الأقل بإطلاق النار على منزل سكني.
إن الزيادة الإجمالية في أعمال العنف والانتحار وذهاب الجنود العائدين من أفغانستان إلى مراكز الطب النفسي، تظهر بوضوح العواقب الوخيمة لهذه الهزيمة الفاضحة للغرب. وفي الواقع، الجنود الموجودون في أفغانستان لا يجدون الآن أي معنى وجدوي للحضور والصعوبات العديدة التي تحملوها في الحرب ضد طالبان.
وكما قال نائب رئيس الجمعية الألمانية لمصابي الحرب لـ "مجموعة فونك ميديا"، إن "الصور المؤلمة القادمة من أفغانستان هذه الأيام، تعيد إلي الأذهان صور معاناة العسكريين من الرجال والنساء في مهمة أفغانستان".
وبحسب تصريحه، فإن المشكلة الكبرى للجنود هي أنهم لا يجدون معنى لتضحياتهم. كما أنهم يشعرون أن المهمات، التي غالبًا ما تكون مصحوبةً بالخوف والموت، لم تسفر في النهاية عن أي نتائج.
معدل الانتحار أعلى من معدل قتلي الحرب
من القضايا البارزة الأخرى التي أصبحت ذات أهمية متزايدة هذه الأيام بالتزامن مع الخروج الأميركي من أفغانستان، هي المقارنة بين عدد ضحايا العسكريين الأميركيين من خلال الانتحار وعدد الضحايا في ساحة المعركة.
حقيقة الأمر هي أن 7557 جنديًا أميركيًا قتلوا في العمليات العسكرية منذ أن شن جورج دبليو بوش الحملة العالمية ضد الإرهاب في عام 2001. لكن النقطة اللافتة للجميع هي أنه خلال هذه الفترة، تشير التقديرات إلى أن 5116 جنديًا و 1193 من أفراد الحرس الوطني و 1607 من أفراد الاحتياط قد انتحروا.
هذا في وقت يعتبر فيه الجيش الأميركي، بحوالي 3 ملايين جندي احتياطي وعسكري، أغلى جيش في العالم، حيث تتمركز قواته حاليًا في حوالي 700 موقع حول العالم.
ويقول بعض علماء النفس إن كل من كان على الخطوط الأمامية في ساحة المعركة لأكثر من 40 يومًا في حياته، من المرجح أنه سيعاني من نوع من الأمراض النفسية في بقية حياته.
وفي هذا الصدد، يمكن لتقرير صادر عن صحيفة واشنطن بوست، والذي تم إجراؤه في عام 2018 كتحقيق مفصل، أن يشير إلى أبعاد أوسع من هذه الكارثة.
وبحسب هذه الصحيفة الأميركية، ربما يكون الجنود الأميركيون قد نجوا من الحرب في العراق وأفغانستان، لكن إذا عانوا من اكتئاب ما بعد الحرب واضطرابات نفسية، فقد يقتلون أنفسهم في النهاية طواعيةً.
ووفقًا للإحصاءات الصادرة عن مكتب شؤون المحاربين القدامى في الولايات المتحدة، تحدث 20 حالة انتحار ناجحة يوميًا بين قدامى المحاربين الأميركيين؛ وبذلك يرتفع العدد الإجمالي لقتلى الانتحار في صفوف الجيش الأميركي إلى حوالي 7000 في عام 2018. وبحسب الإحصائية نفسها، بلغ عدد حالات الانتحار بين الجنود الأميركيين العائدين من الحرب في عام 2016 حوالي 6 آلاف حالة.
في السياق نفسه، كتبت واشنطن بوست أن الجنود الأميركيين أكثر عرضةً للوفاة بسبب الانتحار مرة ونصف من الناس العاديين. وبحسب الخبراء، فإن أعلى معدل انتحار هو في العام الأول بعد العودة من الحرب. كما أن الانتحار أكثر شيوعًا أيضًا بين الجنود الأميركيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و 34 عامًا.
بشكل عام، يمكن القول إن الانتحار وانتشار الأمراض العقلية بين الجنود الأميركيين ليسا جديدين، وأحدث الأخبار في هذا الصدد تعود إلى موجة الانتحار الكبيرة للجنود الأميركيين العائدين من حرب فيتنام في السبعينيات.
في الواقع، يعتقد العديد من الأطباء النفسيين وعلماء النفس الأميركيين، أن البحث في أسباب انتحار الجنود المتبقين من حرب فيتنام، كان أحد المجالات التي أدت إلى العديد من التغييرات في الطب النفسي.
التأثير النفسي العميق للهزيمة في أفغانستان على السياسيين الأميركيين
بالإضافة إلى الاضطرابات النفسية المتزايدة بين أفراد الجيش، فإن الهزيمة المهينة للولايات المتحدة في أفغانستان سيكون لها بلا شك آثار نفسية عميقة على السياسيين واستراتيجيي السياسة الخارجية في هذا البلد، وأهم مظاهر ذلك يمكن أن يكون نهاية أسطورة أميركا المنقذة التي لا تقهر في أذهانهم.
لعقود من الزمان، كان التيار الفكري السائد بين الاستراتيجيين الأميركيين هو نهج الأممية الليبرالية. وقد حكم هذا النهج السياسة الخارجية الأميركية بأشكال واستراتيجيات مختلفة منذ رئاسة وودرو ويلسون أثناء الحرب العالمية الأولى، عندما اقترح إنشاء عصبة الأمم.
وفقًا لهذا النهج، الذي يمكن تقييمه نفسيًا في بعد عميق، فإن واشنطن هي زعيمة العالم الحر ومنقذه، وستكون المسؤول الرئيسي لإنشاء أنظمة ديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم.
وفي هذا الإطار، فإن الجيش الأميركي، باعتباره أقوى جيش في العالم، سيكون مسؤولاً عن الدفاع عن العالم الحر ونشر الليبرالية في العالم، وعليه مواجهة معارضي الديمقراطية الليبرالية.
لكن يبدو أن الهزيمة في أفغانستان تقضي على البعد النفسي لهذا الخيال السياسي لاستراتيجيي السياسة الخارجية الأميركية وصناع القرار في هذا البلد، وسيغرس في أذهانهم نوعاً من الإحباط وينهي لديهم وهم أنه لا يمكن هزيمتهم.
وفي الواقع، يعتبر الانتقال من المثالية إلى الواقعية العقلية، أهم تأثير تركته الهزيمة في أفغانستان في أذهان السياسيين الأميركيين.