لقد كشفت ثورة الحسين خنوع المجتمع القابع تحت نير السلطة الأموية وكانت كلمته الخالدة (لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ولا أفر فرار العبيد) الموجّه للأمة نحو طريق الحرية المعبّد بالدم وهذا ما تجلّى في ثورة التوابين التي استمد قائدها سليمان بن صرد الخزاعي من الحسين (عليه السلام) هذه الروح فخاطب أصحابه قائلا: (ألا لا تهابوا الموت, فما هابه أحد قط إلا ذُل)
لقد أذكت الثورة الحسينية الروح الثورية لدى المسلمين والتي حاول الأمويون إخمادها واستمرت تلك الروح في الثورات التي تلتها والتي اتخذت من كربلاء عاملاً مهماً من عوامل إثارة النفوس فكانت كربلاء رمزاً وشعاراً وروحاً لكل الثورات التي تلتها.
وقد مثّل شعر الرثاء الحسيني دوراً مهماً في إحياء تفاصيل تلك الثورة بل كان من أكبر العوامل في التأثير في النفوس خصوصاً إن الثورة كانت عبارة عن مأساة وفاجعة تجلّ عن الوصف كما كان دور الأئمة المعصومين (عليهم السلام) كبيراً في ترسيخ كربلاء بكل تفاصيلها في ضمير الأمة وإبقائها حية من خلال التأكيد والدعوة إلى تشجيع الشعراء وعقد المجالس الشعرية الخاصة برثاء الحسين(عليه السلام) والحث عليه
فقد حرصوا (عليهم السلام) أشد الحرص على إبقاء روحية الثورة الحسينية ومبادئها متجذرة في النفوس وحية في الضمائر ولهم في ذلك روايات كثيرة جداً, واستمرت هذه الأشعار في تصعيد روح الثورة في الوجدان الشعبي حتى أصبح هذا الشعر ما لا يمكن حصره أو تعداده يقول الشيخ محمد جواد مغنية: (ما عرفت البشرية جمعاء من أبنائها قيل فيه من الشعر ما قيل في الحسين بن علي)
وتقول الدكتورة بنت الشاطئ في موسوعتها (آل النبي) (ص765): (ما أحسب أن التاريخ قد عرف حزناً كهذا طال مداه حتى استمر بضعة عشر قرناً دون أن يفتر فمراثي شهداء كربلاء هي الأناشيد التي يترنّم بها الشيعة في عيد حزنهم يوم عاشوراء في كل عام ويتحدّون الزمن أن يغيّبها في متاهة النسيان)
فكربلاء تعني الثورة تعني الحرية تعني مبادئ الخير والصلاح التي جسدها الإمام الحسين (عليه السلام) على ثراها ومثلما أصبحت كربلاء النشيد الحزين لدى الشاعر فقد أصبحت أنشودته الحماسية في التنديد بالظلم وكل الثورات التي أعقبت ثورة الحسين استمدت من كربلاء هذا المعنى فأصبحت كربلاء المثال والرمز الرافض للظلم.
وعلت الأصوات الأولى لشعراء كربلاء: سليمان بن قتة العدوي, وعبيد الله بن الحر الجعفي, وعقبة بن عمرو السهمي, وأبو الرميح الخزاعي, ويزيد بن مفرغ الحميري, ووهب بن زمعة, وبشر بن حذلم, وعبد الله بن عمرو البدي, وأبو الأسود الدؤلي, وعامر بن يزيد العبدي, والفضل بن العباس الهاشمي, وعوف بن الأحمر الأزدي, والمغيرة بن نوفل, وعبد الله بن الزبير الأسدي, وخالد بن المهاجر, وتبعهم كبار شعراء العصر الأموي الكميت بن زيد الأسدي, والسيد الحميري, وسفيان بن مصعب العبدي, وسيف بن عميرة النخعي, وجعفر بن عفان, وكثير بن عبد الرحمن وغيرهم الكثير.
ومن الضروري الحديث عن الجريمة التي ارتكبها الأمويون والتي تضاف إلى سجل جرائمهم وهي جريمة قتل الكثير من شعر كربلاء والذي يمثل ذروة التراث الإسلامي ومحاولة إبادته لما يشكله من رعب لهم لأنه يكشف جرائمهم ويثير الرأي العام ضدهم, فالسيد الحميري مثلاً وهو شاعر أهل البيت كان من الشعراء الثلاثة الذين لا يدرك شعرهم لكثرته وهم بشار وأبو العتاهية وفي مقدمتهم السيد كما وصفه جميع المؤرخين حتى قال أحد معاصريه: (جمعت للسيد ألفي قصيدة، وظننت أنه ما بقي عليّ شيء، فكنت لا أزال أرى من ينشدني ما ليس عندي فكتبت حتى ضجرت، ثم تركت!!). ولكنك تتفاجأ حينما تقارن بين هذا القول وبين ديوانه المطبوع والذي لا يحتوي سوى قصائد ومقطوعات معدودة !!
وتستمر عملية الإبادة الشعرية، فالكميت بن زيد الأسدي يموت مخلّفاً (خمسة آلاف ومائتين وتسعة وثمانين بيتاً) (5289) كما ذكر ذلك أبو الفرج الأصفهاني في (الأغاني) والطبري في (تاريخه) ولكن شعره الآن لا يساوي ربع هذا العدد ! وهناك من الشعراء من اختفى اسمه مع شعره، فقد ذكر الطبري في تاريخه: (إن عبد الله بن عمرو البدّي من أشجع الناس، وأشعرهم، وأشدهم حباً لعلي) ولكن هل تجد لهذا الشاعر المتفرّد بين الشعراء والفارس الشجاع شعرا يليق بمكانته ؟
وكم من أمثال هذا الشاعر الفارس قد أضاعهم التاريخ أو بالأحرى المؤرخون؟ يقول أبو الفرج الأصفهاني في الأغاني: (كانت الشعراء لا تقدم على رثاء الحسين مخافة من بني أمية وخشية منهم) كما ضاع أو أُضيع الكثير من شعر التوابين (وكان مما قيل في ذلك قول أعشى همدان) كما ذكر الطبري وكان يسمى شعر (المكتّمات). وقد أورد ابن الأثير قصيدة منه في تاريخه.
كما يورد المرزباني (مكتّمة) أخرى لعوف بن عبد الله الأزدي وهو ممن شهد مع أمير المؤمنين(ع) في صفين ومن التوابين وله قصيدة في رثاء الحسين(ع) قال عنها المرزباني إنها كانت تخبأ أيام بني أمية وإنما خرجت بعدهم ويوردها الشيخ عباس القمي في (الكنى والألقاب) ومنها:
وقولوا له إذ قام يدعو إلى الهدى *** وقبل الدعا لبيك لبيك داعيا
سقى الله قبراً ضمّن المجدَ والتقى *** بغربيةِ الطفِ الغمامَ الغواديا
فيا أمةً تاهت وضلّت سفاهةً *** أنيبوا فأرضوا الواحدَ المتعاليا
ويقول السيد جواد شبر في أدب الطف (بين أيدينا مجاميع خطية في المكتبات العامة والخاصة وفيها المئات من القصائد الحسينية ولم يذكر اسم ناظمها وقائلها) ومن الطبيعي أن يكون من هذه القصائد إما من المكتّمات التي أخفى شاعرها اسمه أو من التي أضاعها المؤرخون بسبب التعصب الأعمى فبقيت محفوظة في مخطوطات منزوية في رفوف المكتبات قد يقدر لها أن ترى النور.
ويدلنا كتاب (منتهى الطلب من أشعار العرب) لابن المبارك (محمد بن المبارك بن محمد بن ميمون البغدادي المتوفى سنة 597ه) المجلد الأول ص(10) من مخطوطة دار الكتب المصرية رقم (53) على واحدة من هذه الجرائم التي ارتكبها الأمويون في إضاعة التراث الأدبي والفكري فعندما يتطرق ابن المبارك إلى قصيدة كعب بن زهير في بداية كتابه يقول: (وقال كعب في مدح أمير المؤمنين، وكانت بنوا أمية تنهى عن روايتها وإضافتها إلى شعره) ومطلع قصيدة كعب:
هل حبلُ رملةَ قبل المينِ مبتورُ *** أم أنتَ بالحلمِ بعد الجهلِ معذورُ
وجاء في هذه القصيدة :
صهرُ النبي وخيرُ الناسِ مفتخراً *** فكل من رامَه بالفخرِ مفخورُ
صلى الطهورُ مع الأميّ أوّلهم *** قبلَ المعادِ وربُ الناسِ مكفورُ
مقاومٌ لطغاةِ الشركِ يضربُهم *** حتى استقاموا ودينُ اللهِ منصورُ
وقد أشار إليها شارح ديوان كعب بن زهير الذي نشرته دار القومية للطباعة والنشر، كما ظهر في ذلك الوقت شعر (الجداريات)، وهو الشعر الذي كان يكتبه الشاعر على جدران الأماكن التي أعدت للاستراحة في السفر فيمر بها الناس ويقرؤونها وتتناقل على الألسن ولا يعرفون لمن هي، وقد اشتهر بذلك الشاعر يزيد بن مفرغ الحميري الذي كان من الشعراء الذين رثوا الحسين(ع) كما عُرف بهجائه الشديد للأمويين فناله منهم أشد العذاب والتنكيل حيث يقول في إحدى قصائده يندد بجرائم عبيد الله بن زياد ويؤلب على قتله ويتحرق أسفاً على إراقته الدماء الزكية:
كم يا عبيد الله عندكَ من دمٍ *** يسعى ليدركه بقتلكَ ساعي
ومعاشرٌ أنفٌ أبحتَ دماءهم *** فرقتهم من بعد طولِ جماعِ
اذكر حسيناً وابن عروة هانئاً *** وبني عقيل فارس المرباعِ
والحديث عن جريمة قتل الأمويين للتراث الإسلامي يطول وهناك شواهد أخرى كثيرة تركناها خشية الإطالة ونكتفي بهذا القدر من الإشارة إلى شعراء كربلاء في العصر الأموي.
وتستمر كربلاء في ضمائر الشعراء جذوة لا تطفئها الأيام والأعوام , وصرخة لا يسكتها الطغاة, إنها النبض الذي يسري في عروق الأجيال, والمنبع الثر الذي لا ينضب, والذي يفيض بالعطاء فكانت عرقاً ينبض فيهم في كل زمان ومكان، وكان من أقسى الفترات التي مر بها شعراء الشيعة هي الفترة العباسية التي مارست كل أنواع البطش والتنكيل ضد شعراء كربلاء شعراء الحقيقة، ولكن رغم ذلك فأن أسم الحسين (عليه السلام) وكربلاء لم ينقطع عن أفواههم، فتجد من يقول: (إني أحمل خشبتي على كتفي عشرين عاماً لا أجد من يصلبني عليها)، فحُورب الشعراء ، وطُوردوا، وقتّلوا وعذّبوا بأشد أنواع العذاب من أجل عقيدتهم ونجد في قصة الشاعر عبد الله البرقي خير مثال عن الشعراء الذين عرفوا في ذلك الوقت بشدة ولائهم وتمسكهم بمنهج أهل البيت ع فعندما يسمع المتوكل قصيدته والتي منها:
فقلدوها لأهل البيت أنهم *** صنو النبي وأنتم غير صنوانِ
وهي قصيدة طويلة في مدح أهل البيت (عليهم السلام) والتعريض ببني العباس يأمر بقطع لسانه وإحراق ديوانه فمات بعد ذلك بأيام قليلة!! وكان هذا دأب شعراء أهل البيت (عليهم السلام) رغم قسوة السلطة، لكن رغم تلك الدكتاتورية كان الشعراء يزدادون إيمانا بقضيتهم وتمسكا بمبدئهم في حب أهل البيت يقول دعبل الخزاعي في تائيته:
أحب قصي الدار من أجل حبكم *** وأهجر فيكم زوجتي وبناتي
ومن الشعراء من لم يسلم حتى في قبره فـ (تتبعوه رميما) كما جرى للشاعر منصور النمري عندما أمر الرشيد بقطع لسانه وقتله وقطع رأسه لما سمع عنه أنه رثى الحسين(ع) فأخبروه بأنه قد مات فأمر بنبش قبره !! وهذا ما يعطي صورة واضحة للممارسات الهمجية التي كانت السلطة العباسية تمارسها للحد من هذا الشعر ودفنه
وقد حذا الحكام العباسيون حذو أسلافهم الأمويين في إتلاف الشعر الشيعي وساعدهم على ذلك مؤرخو السلطة فعبارة: (إن كثيراً من شعره قد ضاع)، و(ضاع أغلب شعره)، و(لم يبق من شعره إلّا القليل، وأغلبه قد ضاع) تترددّ كثيراً في مقدمات المحققين عندما ينبروا لتحقيق ديوان لأحد شعراء كربلاء, فدعبل الخزاعي الذي قال عنه الجاحظ: (إن دعبلاً قال الشعر مدة ستين سنة، ما ذر شارق إلّا قال شعرا) لا يحتوي ديوانه سوى على قصائد ومقطوعات قليلة وقياساً على قول الجاحظ ينبغي أن يكون ديوان دعبل الحقيقي أكبر من المطبوع بعشرين مرة على الأقل لأنه: (قال الشعر وهو صبي)، و(عاش (98) سنة)، و(لم ينقطع عن الشعر طيلة حياته) كما وصفه الجاحظ وغيره من المؤرخين، ولولا أن قصيدته التائية المشهورة التي أنشدها عند الإمام الرضا (عليه السلام) قد تناقلتها الأفواه لما سلمت من يد الاغتيال كما آلت إليه قصيدة إبراهيم بن العباس الصولي (المتوفى 243هـ) في مدح أهل البيت والتي أنشدها أيضا عند الإمام الرضا (عليه السلام) والتي تزيد على مائتي بيت ولم يحفظ لنا التاريخ سوى مطلعها الذي رواه أبو الفرج الأصفهاني في الأغاني (ج3ص83) وهو:
أزال عزاء القلب بعد التجلّدِ *** مصارع أولاد النبي محمدِ
كما نال الشاعر علي بن عبد الله بن وصيف الحلاء المعروف بـ (الناشئ الصغير) نصيباً وافراً من هذا التضييع فهذا الشاعر وصفه المؤرخون بعبارات (مدائحه في أهل البيت لا تحصى كثرة) و(له أشعار كثيرة في أهل البيت (عليهم السلام) لا تحصى حتى عرف بهم ولقب بشاعر أهل البيت) و(استنفد عمره في مديح أهل البيت حتى عرف بهم وأشعاره فيهم لا تحصى كثرة) إلى غيرها من الجمل في نفس المعنى ومع ذلك يطالعك نفس المؤرخين بعد هذه الجمل بالقول: (وأغلب هذه المدائح لم تصلنا وضاعت في ما ضاع مع شعره الكثير) وإن (له ديوان شعر مفقود) ولنا أن نتساءل أين ذهبت هذه المدائح والمراثي؟
وتتناسل تلك اليد (الأمينة) على التراث الأدبي وتمتد وتتضح بصماتها في ديوان ديك الجن الحمصي. فهذا الشاعر الذي قصده دعبل الخزاعي إلى بلده ونعته بــ (أشعر الجن والإنس)، ولم يخفِ أبو نؤاس انبهاره بشعره فقصده هو أيضاً ليقول له: (فتنت أهل العراق بشعرك)، بقي شعره (1110) سنوات متناثراً في بطون الكتب حتى تصدّى عبد المعين الملوحي، ومحي الدين الدرويش الحمصيان لجمعه عام (1960). ولكن هذين الأستاذين قطعا كل صلة للشاعر مع أهل البيت، حتى ليُخيل إلى القارئ أن هذا الشاعر لم يدرك الإسلام!! فلم يذكرا بيتاً واحداً للشاعر فيهم رغم انه من شعرائهم، حتى انبرى الدكتور أحمد مطلوب، والأستاذ عبد الله الجبوري لصون هذه الأمانة فجمعا معه ما بقي من شعر ديك الجن في حق أهل البيت (عليهم السلام) باعتمادهما على نسخة خطية بيد الشيخ محمد السماوي بلغت (39) قصيدة في (278) بيتاً بعثها إليهما الشيخ محمد علي اليعقوبي.
هكذا تلعب الأهواء والعصبية دورها في ضياع تراثنا الأدبي، وهؤلاء الشعراء الذين ذكرناهم هم نموذج للكثير من الشعراء الذين ضاع شعرهم أو بالأحرى أُضيع بسبب انتمائهم لمدرسة كربلاء فالذي وصلنا من شعر كربلاء هو النزر اليسير مما قيل.
كما لم يسلم الشعر الأندلسي من هذا الضياع أو التضييع فما كان يفوت السلطة تضييعه ودفنه يتكفل المؤرخون بإضاعته ونكتفي من ذلك بما جاء في مقال الدكتور (عبد اللطيف السعداني) المغربي تحت عنوان (حركات التشيّع في المغرب ومظاهره) في مجلة الهادي (1392ه) حيث يقول: (ونتلمس هذه الحركة فيما بعد عصر مبدع هذه القصيدة الحسينية فنعثر على أثر آخر للفكر الشيعي حيث نلتقي بأحد أدباء الأندلس في النصف الأول من القرن السابع الهجري هو القاضي أبو محمد بن عبد الله القضاعي البلنسي المقتول في (20 محرم سنة 658 هـ) ونقف على اسم كتابين من مؤلفاته العديدة موضوعهما هو رثاء سيدنا الحسين.
أولهما (اللجين في رثاء الحسين) ولا يعرف اليوم أثر لهذا الكتاب غير اسمه.
وثانيهما: (درر السمط في أخبار السبط) وكان كل ما بقي من هذا الكتاب هو ما نقله المقري في كتابه (نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب) وقد اعترف المقري بأنه أغفل نقل بعض الفقرات من الكتاب مما يشم منه رائحة التشيع ثم إنه اكتفى بنقل جزء من الباقي فقط) إلى هنا انتهى كلام السعداوي ونترك التعليق للقارئ.
وكان من أبرز شعراء الرثاء الحسيني في العصر الأندلسي صفوان التجيبي وابن دراج القسطلي وأبو البقاء الرندي وابن أبي الخصال وغيرهم ورغم كل هذا التغييب فإن اسم الحسين وكربلاء بقيا يرفدان الشعراء بأروع ملاحم الإباء في رحلتهم التي لم تتوقف في أشد الظروف وأقساها ولن تتوقف مادامت القلوب تنبض بالحياة, وما دامت دروس كربلاء تزخر بالعطاء, لترسم للمسلمين ملحمتهم الخالدة حيث تابعهم على نهجهم الشعراء الفاطميون والحمدانيون والبويهيون والمزيديون والإدريسيون والموحديون ومن أبرز الأسماء في هذه المسيرة الشريف الرضي, والمرتضى, والصاحب بن عباد, والزاهي, والصنوبري, وسبط بن التعاويذي, وابن المعلم الواسطي, والشوّاء الحلبي, والراوندي, ومهيار الديلمي, وكشاجم, وابن المقرب العيوني وغيرهم الكثير.
وتتوالى مواكب الشعراء وهي تطوف حول كربلاء فلا تجد بقعة من بقاع المسلمين لم يلهج شعراؤها باسم الحسين وكربلاء فزخر الأدب البحريني والحجازي واللبناني والمصري والسوري بصفحات مشرقة من أدب كربلاء وهناك أسماء لا حصر لها واكبت هذه المسيرة
وتغلغل اسم الحسين وكربلاء إلى الضمير الإنساني عبر العصور فأصبحا قبلة لعشاق البطولة والإباء بغض النظر عن دينهم وانتماءاتهم ومثلما هز الصوت الحسيني البطل وهب المسيحي فلا يزال هذا الصوت متجدداً يهز الضمائر الحرة من الشعراء والكتاب المسيحيين الذين وجدوا في وهب أسوة حسنة، فتجسد ذلك في شعرهم ونثرهم فكتبوا الملاحم والقصائد الطويلة وألفوا الكتب والموسوعات عن كربلاء.
ويطالعنا الأدب العربي بقائمة كبيرة من قاماته السامقة من الشعراء والأدباء المسيحيين استلهموا من علي والحسين الروح الإنسانية الكبيرة فكتب الشاعر اللبناني بولس سلامة ملحمة (الغدير) التي تبلغ أكثر من ثلاثة آلاف بيت، كما كتب ملحمة (علي والحسين) التي تبلغ (220) بيتا، وكتب عبد المسيح انطاكي (الملحمة العلوية) التي تبلغ (5595) بيتا، وكتب ريمون قسيس ملحمة (الحسين).
أما على صعيد التأليف فقد ألف عن الإمام علي والحسين الكثير من الأدباء المسيحيين منهم سعيد عقل وأمين نخلة ونصري سلهب وسليمان كتاني وخليل فرحات وجوزيف الهاشم وجورج جرداق وغيرهم، لقد وجدوا في كربلاء عنوان الحرية والمبادئ الحقة والنهج لشعوب تطمح إلى استقلالها يقول بولس سلامة:
سوف يبقى الدم الزكي لواء *** لشعوب تحاول استقلالا
ويقول أدوار مرقص:
يا غرة الشهداء من عليائها *** لوحي عليهم كالضياء العاقد
موسومة بدم الشهادة فهي لا *** تنفك تدمي مثل زند فاصد
كيما يسيروا في الحياة بنهجه *** لا يخضعون لغاصب ومعاند
كما لم يقتصر هذا الشعر على لغة العرب وحدها ولا على المسلمين وحدهم فتمجيد الثورة ضد الظلم هو تمجيد للمبادئ الإنسانية جمعاء وقد كانت ثورة الحسين عالمية بكل مقاييسها وقيمها ومبادئها السامية فغطى صداها جميع أصقاع العالم وأصبحت كربلاء أنشودة الحرية في فم الأجيال يقول جبران خليل جبران: (لم أجد إنساناً كالحسين سجّل مجدَ البشرية بدمائه).
ففي ألبانيا شكل الرثاء الحسيني جزءً مهماً من الأدب الألباني ومن ذلك ملحمة شعرية للشاعر (نعيم بك فراشري) (1846 ــ 1900) في مقتل الحسين(ع) سماها (كربلاء) تعتبر من روائع الأدب الألباني.
أما في الهند فقد أغنى الأدباء والشعراء الشيعة الأدب الهندي وكان للأثر الحسيني الدور الأكبر في إنماء المعارف والثقافة والمورد للشعراء الذي استقوا منه لا على الصعيد العلمي والفكري والأدبي فقط بل على الصعيدين الروحي والخلقي حيث شكل شعر الرثاء الحسيني الفن الأكثر بروزا في الأدب الهندي وهناك أسماء كثيرة من شعراء الرثاء الحسيني من كبار أدباء الهند, وكذلك في الأدب الفارسي والتركي والباكستاني.
لقد أفصحت القصائد الكثيرة التي تناولت كربلاء على مدى قرون طويلة عن مفهوم أن التاريخ سياق يتحرك باستمرار, فالإرث العظيم الذي حملته هذه المدينة المقدسة بقيمه السامية ومبادئه العظيمة تجاوز التراث ليشكل صلة نابضة حية بين الماضي والحاضر, وليكون أكثر حضوراً وإشراقاً في وجدان الأمة جيلاً بعد جيل, فانصهر صوت الشاعر مع كربلاء ليعبر من خلالها عن طموحات الأمة وتطلعاتها نحو مستقبل مشرق.
لقد وجد الشعراء في الحسين وكربلاء, سمو المعنى.., وجذوة التاريخ.., ومجمع القيم, فأضفى كل ذلك على شعرهم معنى إنسانياً نبيلاً ساطعاً, يمتد من عاشوراء, فيتدفق في الضمائر والقلوب مع الأجيال, ويتجدد مع الأيام والأعوام
محمد طاهر الصفار