قبل أيام من حلول موعد زيارته للولايات المتحدة الأميركيّة، أدلى رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي بتصريحات صحافية، قال فيها: "إن العراق لا يحتاج إلى قوات أميركية قتالية، وإنما إلى مساعدة تدريبية واستخبارية"، مؤكّداً أن الهدف من زيارته المقررة لواشنطن في 26 تموز/يوليو الجاري، "يتمثل بتنظيم العلاقات الأميركية العراقية وانسحاب القوات القتالية، لأن قواتنا أصبحت جاهزة".
ربما تكفي هذه الكلمات الواضحة للإشارة إلى أنّ موضوع الانسحاب وإنهاء التواجد العسكري الأميركي على الأراضي العراقية يفترض أن يتصدّر أجندة برنامج زيارة الكاظمي لواشنطن، والتي تعد الثانية منذ توليه المنصب في 6 أيار/مايو من العام الماضي، خلفاً لرئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي، على خلفية تظاهرات واحتجاجات جماهيرية امتدت إلى عدة شهور في مختلف مدن العراق، مطالبة بإنهاء الاحتلال وتحقيق الإصلاح وتقديم الخدمات.
وهناك إشارات أخرى في هذا الخصوص لاحت باكراً، من بينها أنَّ الوفد الكبير الذي من المفترض أن يرافق الكاظمي إلى واشنطن ضم عدداً لا يُستهان به من القادة العسكريين والأمنيين الكبار في وزارتي الدفاع والداخلية وجهاز الأمن الوطني، إلى جانب وزراء وخبراء ومستشارين ومديرين في مختلف التخصصات. ومن الطبيعي أن وجود ذلك العدد الكبير من القادة، يعني في ما يعنيه أنَّ الملفات الأمنية - العسكريّة المتداخلة بين بغداد وواشنطن ستشغل حيزاً غير بسيط من مباحثات الكاظمي مع الإدارة الأميركية.
من الطبيعي جداً أن يتصدَّر موضوع الانسحاب قائمة موضوعات برنامج الكاظمي، ارتباطاً بجملة عوامل وأسباب، من بينها الأجواء السياسية والشعبية الضاغطة بهذا الاتجاه، والتي راحت تتصاعد وتتسع مع الاستهداف المتكرر للحشد الشعبي من قبل القوات الأميركية، وانتفاء وزوال المبررات والذرائع التي استدعت عودة تلك القوات تحت مظلة التحالف الدولي في صيف العام 2014، بعدما كانت قد غادرت بصورة نهائية أواخر العام 2011.
مسيرة المفاوضات العراقية – الأميركية وبحث الوجود الأميركي في البلاد تعود إلى ما قبل 14 عاماً؛ ففي العام 2007، خاضت الحكومة العراقية في عهد رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي مفاوضات ماراثونية طويلة مع واشنطن، أفضت إلى إبرام الاتفاقية الأمنية واتفاقية الإطار الاستراتيجي في العام 2008، ومهَّدت لانسحاب القوات الأميركية من البلاد في نهاية العام 2011.
وبعد حصول الكثير من المتغيرات والتحولات، ولا سيما بعد اجتياح تنظيم "داعش" مساحات من الجغرافيا العراقية في صيف العام 2014، بدا من الضروري جداً إجراء مراجعات تفصيلية دقيقة لتلك التجربة وتشخيص نقاط قوتها، لاستثمارها وتوظيفها في المفاوضات الجديدة، وكذلك تشخيص مكامن الضعف فيها لتجنّب الوقوع بها مرة أخرى.
وبعد تولّي الكاظمي رئاسة الوزراء بوقت قصير، انطلق الحوار الاستراتيجي بين بغداد وواشنطن، إذ عقدت أولى جولاته في منتصف شهر حزيران/يونيو 2020، وعقدت الجولة الثانية بعد حوالى شهرين، تزامناً مع زيارة الكاظمي الأولى لواشنطن في أواخر شهر آب/أغسطس 2020، فيما عقدت الجولة الثالثة مطلع شهر نيسان/أبريل الماضي.
وفي هذه الأيام، واستباقاً لزيارة الكاظمي الثانية، التقى كبار المسؤولين العراقيين نظراءهم الأميركيين في إطار الجولة الرابعة التي يراد منها إنضاج وبلورة أبرز محاور البحث والنقاش بين الطرفين، لتبرز مخرجاتها من خلال لقاء الكاظمي الرئيس بايدن في البيت الأبيض في 26 تموز/يوليو الجاري.
وعلى امتداد 14 شهراً، اتّسمت العلاقة بين واشنطن وبغداد بالكثير من الشدّ والجذب، في ظلِّ الضربات الصاروخية التي كانت تستهدف الوجود العسكري والدبلوماسي الأميركي في العراق، والاستهداف الأميركي للحشد الشعبي، وتوالي الإشارات إلى عدم نيّة واشنطن إنهاء وجودها العسكري في العراق، بل إعادة تكييفه وتعديل مهامه وأدواره وفق مقتضيات الظروف والأوضاع.
بعبارة أخرى، كانت أزمة الثقة، وما زالت، هي السّمة السائدة في هذه العلاقة، وخصوصاً مع تباين المواقف الرسمية وغير الرسمية العراقية، وعدم وضوح رؤية حكومة الكاظمي، وعدم اضطلاع واشنطن بدور ملموس بمساعدة بغداد في مواجهة المشاكل والأزمات الاقتصادية والصحية التي تعرَّضت لها على مدى العامين الماضيين، مثلما تعهّدت بذلك وفق اتفاقية الإطار الاستراتيجي.
وبينما تشدّد قوى سياسية عديدة، إلى جانب فصائل المقاومة، على ضرورة تأسيس الحوار والتفاوض على أرضية قويّة ورصينة، تكون القضية المحورية والأساسية فيها إنهاء التواجد العسكري الأميركي بكلِّ أشكاله ومظاهره، ووضع أطر وهياكل مناسبة للعلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية بين الطرفين، بما يحفظ السيادة الوطنية ويعززها، يذهب الموقف الحكومي العراقي باتجاه التماهي مع التوجه الأميركي القائل بتحويل المهام القتالية للوجود العسكري في العراق إلى مهام استشارية وتدريبية، مع إعادة نشر القوات وتوزيعها، ارتباطاً بحسابات أمنية، وهو ما كشفت عنه مؤخراً صحيفة "بوليتيكو" الأميركية، نقلاً عن مصادر خاصّة، إذ أكّدت في تقارير لها "أنّ إنهاء المهمة القتالية للقوات الأميركية لن يشمل انسحابها من العراق، والخطّة تشمل بقاء عدد محدد من الجنود في العراق لتقديم الدعم اللوجيستي والاستشاري"، وهو ما يتطابق تماماً مع تصريح الكاظمي الوارد في السطور الأولى، والذي ضمّنه إشارة إلى حاجة العراق إلى الحماية الجوية الأميركية، أي أن السيادة ستقتصر على الأرض دون السماء، فضلاً عن تصريحاتٍ لوزير الخارجية العراقي فؤاد حسين غداة توجهه إلى واشنطن الأسبوع الماضي، قال فيها: "نحتاج إلى دعم القوات الأميركية ومساندتها في مواجهة فلول داعش".
وفي أوقات سابقة، قال مستشارون مقربون إلى الكاظمي إنه سيتم "التأكيد على السيادة الوطنية في المفاوضات مع الجانب الأميركي، من دون التطرق بشكل مباشر إلى انسحاب القوات الأميركية". وبالفعل، إنَّ جولات الحوار الاستراتيجي الثلاث، تركَّزت على محاور وموضوعات سياسية وأمنية واقتصادية وثقافية متنوعة، لم يكن موضوع الانسحاب متصدراً فيها، وهو ما ولد ردود أفعال سياسية وشعبية رافضة أو متحفّظة ومعترضة، بسبب اختلال الأولويات، إذ إنَّ المطلب المهم والأساس يتمثّل بإنهاء التواجد الأجنبي - الأميركي، وهو ما شدَّدت عليه المرجعية الدينية، وطالبت به ساحات التظاهر السلمي، وأقره البرلمان في الخامس من شهر كانون الثاني/يناير الماضي، وشرعت الحكومة السابقة برئاسة عادل عبد المهدي بالعمل عليه.
وما يعزز التباين الكبير بين المواقف الرسمية وغير الرسمية العراقية، هو ما تراه الكثير من النخب والشخصيات السياسية، بأن الحوار الاستراتيجي الذي انطلق في 11 حزيران/يونيو الماضي بين بغداد وواشنطن، وبجولاته الأربع، ومعها زيارة الكاظمي الأولى، لم يكن مشجّعاً، لأنه ابتعد عن الموضوعات والقضايا الجوهرية الأساسية، وراح يدور حول ملفات تأتي في الدرجة الثانية أو الثالثة من حيث الأهمية والاهتمام والأولويّة.
ويُقال إنَّ رسائل واضحة وصريحة وصلت إلى الكاظمي عندما كان يتهيأ للتوجّه إلى واشنطن، فحواها أنه إذا أراد مواصلة مسارات ذلك الحوار، فينبغي له أخذ مجمل الملاحظات والتحفظات المطروحة من قبل كلّ الأطراف بعين الاعتبار. وفي الوقت ذاته، عليه أن لا يستكين للضّغوطات والمساومات الأميركية، وأن لا يصدق كثيراً وعود ساسة البيت الأبيض وتعهداتهم، لأن موضوع السيادة الوطنية يتصدَّر قائمة الأولويات، بصرف النظر عن أيّ حسابات خاصة.
بعبارة أخرى، إنَّ كلّ ذلك يستدعي أن يتصدّر ملف إنهاء الوجود الأجنبي قائمة الموضوعات التي سيناقشها الكاظمي مع المسؤولين الأميركيين، فمن دون حسم هذا الملف بصورة تعيد كامل السيادة الوطنية للبلاد، ستبقى كل الملفات والقضايا الأخرى معلّقة، ومن غير الممكن حسمها، وسيكون الحوار الاستراتيجي بين الطرفين عقيماً ولا جدوى منه، ما لم يرتكز ويتمحور حول مطلب خروج القوات الأميركية من البلاد، علماً أنَّ تفعيل ذلك المطلب يعدّ أحد أبرز مهام الحكومة الحالية، إلى جانب إجراء الانتخابات المبكرة واستعادة هيبة الدولة وتلبية المطالب الشعبية المشروعة التي طرحت خلال الحراك الجماهيري السلمي في تشرين الأول/أكتوبر 2019.
ولا شكَّ في أنَّ الحوار بين واشنطن وبغداد ينبغي أن يفضي إلى اتفاقيَّة جديدة شاملة تمثّل خارطة طريق وإطاراً يحدد ويرسم مسارات العلاقة المستقبلية واتجاهاتها وسياقاتها، انطلاقاً من المصالح الوطنية العليا، مع الأخذ بعين الاعتبار حقائق المشهد الإقليمي العام وموقع العراق فيه وتأثيره فيه وتأثره به.
وفي حال لم تأتِ مخرجات زيارة الكاظمي الثانية لواشنطن في هذا السياق، وما لم تضع النقاط على الحروف، فإن المشهد سيكون مهيأً للمزيد من التعقيد والتأزيم وخلط الأوراق. ولعل الشهور الخمسة المقبلة من هذا العام ستمثّل الخط الفاصل بين مرحلتين، ولا سيَّما أنَّ الانتخابات البرلمانية المبكرة باتت على الأبواب، وينتظر أن تفرز حقائق ومعادلات وتوجّهات جديدة.
عادل الجبوري/كاتب وصحافي عراقي .. الميادين نت