وكانت هنالك امرأة كريمة، تطوف لا كما يطوفون، إذ كانت تتجه إلى الله وحده لا شريك له، فتغمر نفسَها ضراعةُ المتبتِّل، وخشوع المحتاج، ووقار المطمئن إلى فضل الله، تدعو الله وحده، وتسأله أن يخفف عنها وطأة ما تخافه وتحذره.
لقد كانت أُمّاً لثلاثة أبناء وبنت واحدة، ولكن لم يشتد بها المخاض ولا عصر أعصابها كهذه المرة.
ودعت، فألحت في الدعاء لعل الله يخفف عنها آلام الطلق، وتضرعت فأبلغت في التضرع، وفي الجانب الغربي من البيت، إذ اجتمع طائفة من الحجاج، حدث أمر عجيب:
لقد كانت في أُخريات أشواطها، عند مقترب الركن اليماني، إذ انشق لها جانب البيت، وكأن نداءً خفيّاً يدعوها أن ادخُلي بيت ربك!
دخلت البيت، والناس يشهدون في ذهول ويصيحون صيحة العجب!. فيتقاطر عليهم سائر الطائفين، يسألون عن الحدث؟ ومن هذه السيدة التي كانت الساعة تطوف؟. إنها حفيدة هاشم بنت أسد، زوجة أبي طالب والدة أم هاني وطالب وعقيل وجعفر. إنها فاطمة!.
ويجتمع الناس وبينهم الزعماء والأشراف.. وبعد مدة، ينشق الجانب ذاته، فتتهلَّل وجوه الحاضرين كما يتهلل وجه الوليد العظيم، وهو يتقلب على أذرع الوالدة الكريمة.
إنه حادث فريد من نوعه، أن ينشق طرف البيت، فتدخل الحامل وتلد في مركز الإشعاع الروحي والبركة الإلهية، بيت الله الحرام الذي يعتبر أقدس محل " يحترمه العرب"..
وإنها لكرامة لبني هاشم على قريش، ولقريش على العرب أن يوليّهم ربُّ البيت بهذه العناية، فيسمح لامرأة منهم أن تضع حملها ببطن بيته، مكرَّماً ومعظّماً.
وسرت البشرى في بيوت الهاشميين! وانطلقت نساؤها تزف تهانيها إلى فاطمة معجبة مغرمة.. وجاء الزعماء يبشرون أبا طالب بالوليد العظيم، ومن بين هؤلاء فتى يهمه أمر الوليد أكثر من غيره،ينظر إليه لا كما ينظر الرجال الآخرون.. إنه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله الذي لم يزل يحسب من عائلة أبي طالب.
وقالوا : إن الوليد لم يفتح عينيه إلاّ على محيَّا ابن عمه النبي العظيم وسُمِّيَ عليّاً، واختارت أمه له اسم (حيدر) وإذا كان هذا الاسم يوحي باكتمال الجسم الذي يبشر بالبطولة، فإن الاسم الآخر كان يوحي ببشائر السموِّ المعنوي.
كانت لولادته -كما لمقتله- عليه السلام، شهادة حق على صدق رسالات الله.. إنه آية الله العظمى في كل جوانب حياته، من ولادته إلى شهادته.
بعد أن خرجت أم علي عليه السلام تحمله، استقبله النبي محمد صلى الله عليه وآله وهو يعلم أنه سيكون وصيَّه وخليفته، فعمَّ السرور قلبه الكبير.
ولم يتفارقا منذ تلك اللحظة حتى ارتحل عنه النبيُّ صلى الله عليه وآله إلى ربه، فلزم الوصي سنَّته حتى الشهادة.
وحين يصف الإمام بفخر عظيم تلك العلاقة الحميمة بينه وبين النبي صلى الله عليه وآله لايدع لنا إشكالاً في أنها كانت من تقدير الله عزَّ وجلَّ وأن لها آثارها في بلاغ رسالاته إلى الناس.. يقول:
" أنا وضعت في الصغر بكلاكل العرب، وكسوت نواجم قرون ربيعة ومضر، وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه وآله بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد يضمّني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسُّني جسده، ويشمّني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثم يُلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قوله، ولا غلطة في فعل، ولقد قرن الله به صلى الله عليه وآله من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره، ولقد كنت اتبعه اتِّباع الفصيل أثر أُمه، يرفع لي كل يوم من أخلاقه علَماً ويأمرني بالاقتداء به. ولقد كان يجاور كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلى الله عليه وآله وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة واشم ريح النبوَّة ".